هل يعبئ الاحترام مكان الحب الفارغ؟
"الاحترام ابتكر ليعبئ ذلك المكان الفارغ حيث ينبغي للحب أن يكون". تلك العبارة تجسّد حياة آنا كارنينا الضحلة التي عاشتها مع زوجها، قبل أن تقع في هاوية حب غائرة لا تحاول الخروج منها، باستمتاع مازوشي غريب.
الفيلم "آنا كارنينا"، المقتبس من الرواية الكلاسيكية الخالدة لليو تولستوي "لعام 1877"، من إخراج البريطاني جو رايت لعام 2012، وهو يظهر اهتماماً بنقل السينما للأعمال الأدبية الكلاسيكية، كفيلم "كبرياء وهوى"، و"تكفير". لم يتورع رايت عن إبراز رؤيته للرواية بحلّة مختلفة، وتصوير سينمائي بديع مترف بأزياء كلاسيكية مكلفة تعكس الطبقة المخملية والثراء الفاحش، أكثر من تصوير الطراز الروسي، حتى يكاد المشاهد لوهلة أن يتصور الفيلم مقتبس من رواية بريطانية. يختار المخرج جو رايت الانتقال من مقطع مؤثر للفيلم إلى آخر، باستعراض مسرحي يتمازج مع المشاهد بتلقائية متعمدة. فتظهر الشخصية المحورية آنا، وكأنها مستلقية على سرير صمم على مسرح، وهي تتأمل ابنها بِوَله، ثم تجد نفسك تنتقل إلى الأحداث المرتبطة بذلك المشهد دون استهجان، مما يزيد من الإحساس بطابع الواقعية الساحرة التي زركش بها جو رايت الفيلم بسلاسة غامرة.
الفيلم ظهر بحلّة جديد تختلف عن رواية تولستوي، وقد يكون ذاك أفضل منهج يتخذ مع عمل روائي بحجم "آنا كارنينا". حيث من الصعب اقتباس الكثير من الرواية، كاستخدام ليو تولستوي للمونولوج الداخلي للتعبير عن أحاسيس وأفكار الشخصيات، وزيادة الارتباط بها والتعاطف معها. حاول المخرج البريطاني الاستفادة من حرفية الممثلين المشاركين في الفيلم كالشابة "كييرا ناتالي"، والتي أدت أدواراً بطولية في أفلامه الكلاسيكية الأخرى، والتي أدت دور آنا كارنينا بشغف، وأظهرت قلقها وحماستها وتقلباتها العاطفية والمزاجية المفرطة بوجه معبر ولغة جسد تحكي ما تمر به. كما أرغمك الممثل "جود لاو" أن تبغض شخصية الزوج المستسلم، الذي يراقب خيانة زوجته له ويمعن في إرغامها على البقاء معه في علاقة مشوهة الملامح. كما ركز الفيلم على أحداث الرواية العاطفية، مبتعداً عن التطرق للتغييرات السياسية والاجتماعية في روسيا، حيث لم يحرص المخرج على نقل مشهد حرث الأرض والمزارعين الذي اهتم بسرده تولستوي، واختصره بمشهد وحيد على عجالة.
#2#
من أبرز إبداعات المخرج، تصويره للقطار الذي يمضي قدماً بسرعة جياشة، في أكثر من مشهد، بتأثيرات تقنية جميلة، وتصوير سينمائي حالم وألوان باهتة. فجو رايت يحاول إبراز أهمية رمزية القطار كما ظهر في الرواية، فهو يظهر كرمز لأداة تدمير عنيفة منطلقة، ويرمز القطار لعلاقة أنا والكونت فرونسكي التي مضت بسرعة وتهور دون توقف. في الوقت نفسه الذي تعتبر فيه محطة القطار، مكاناً ذو علاقة حميمة لآنا، حيث التقت لأول مرة بفرونسكي، وحيث قررت أن تنهي حياتها فيه، ويقرر الكونت فرونسكي من جهته ركوب قطار يحمله إلى حرب قد يقتل فيها لشراستها كانتحار مغلّف. كل ذاك يعكس الضغوط الاجتماعية والنفسية التي تعرضت لها الشخصيات في مجتمع روسيا في القرن التاسع عشر، حيث تمارس السلطة الذكورية، ويعمل المجتمع كجلاد يحاكم الآخرين، ويؤدي تقديس الحياة الأسرية إلى رفض الطلاق المنافي للتقاليد الاجتماعية، مما يؤدي إلى رفض آنا التخلي عن زواجها وابنها الصغير، الذي أظهره المخرج بمشهد بديع يضيع في متاهة محاطاً بأشجار مشذبة. لتصبح محاولتها لاكتشاف ذاتها والانغمار بأحاسيس جديدة ترفاً لا يقودها إلى نهاية سعيدة. خصوصاً بعد إصرارها الاستمرار في زواجها ومجابهة نظرات الاتهام الموجهة لها من قبل المجتمع، بصمود لا يستمر حتى النهاية. كما يصارحها الكونت فرونسكي: "ليس بإمكاننا الحصول على السلام. فقط البؤس، والسعادة الأعظم".
هل هناك إجحاف في حق رواية لكاتب عظيم كتولستوي حين نقلت بأسلوب مبسط إلى الشاشة؟ من المؤكد أن يكون هناك تقليل من روعتها. إلا أن الوضع الراهن حيث يغلب نفاذ الصبر، والبحث عن السرعة والإثارة وتفضيل مشاهدة فيلم لفترة قصيرة عن قراءة رواية ضخمة، يحتم احترام الأفلام التي تحاول تحويل الأعمال الأدبية إلى صوت صورة. وقد حصد فيلم "آنا كارنينا"، ما تجاوز 69 مليون دولار، لمشاهدين من مختلف بقاع العالم، راقبوا "كييرا ناتالي" بشغفها وحماستها وتعبيرها المتطرف للعشق، الذي تبعته لحظات انهيار كادت أن تصلها إلى الجنون، وفضلوا مشاهدة ذلك عن قراءة تلك الأحداث في رواية تولستوي.