الأخلاق والحرية .. وجهان لعملة واحدة
تصور معي أنه قد تم إغلاق غرفة على قط لمدة يومين، وبعدها تم تزويده بقطعة لحم، فمن الأكيد أنه سيأكل دون تردد من شدة الجوع، لكن لنتصور الأمر قد حدث لإنسان، فما هو رد فعله عندما يقدم له الطعام؟ ردة الفعل لن تحسم بسهولة كما حسمت مع القط، فمثلا يمكن أن يبادر بالأكل، ولكن قد يمتنع لأنه صائم، أو يعاند فيضرب عن الطعام. يبدو من هذا المثال أن الإنسان مختلف تماما عن الحيوان، فهو لديه القدرة على أن يختار بين بدائل مختلفة، أما الحيوان فمحدود الاختيار، لأنه محكوم بالغريزة وموجه بالطبيعة، فهو خاضع، وخانع للبرمجة الوراثية، ومكبل ومقيد ولن يخرج أبدا عن ما سطر له سلفا. ونفس الأمر يقال عن شاب تم صفعه أمام الملأ، فلا يمكن التنبؤ بالضبط بأي ردة فعل سيرد، هل سيكون حكيما ويكظم غيظه ويتمالك نفسه، أم سيقوم بعنف مضاد، أم سيبتسم معلنا أنه سيقوم بانتقام مؤجل، أم سيجمع الشهود ويسجل محضرا لدى الشرطة ويترك العدالة تأخذ مجراها.. إذن لا يمكن الحسم في اختيارات الإنسان، وهذا يدل على خصيصة مميزة لبني البشر وهي الحرية، فهي منحة منع إياها الحيوان.
فالنحلة تصنع خلية سداسية الشكل ولن تقدر على صنع شكل ثماني، فالأمر ليس أمرها، بل الأمر أمر الضرورة الغريزية، فهي منزوعة الحرية، وما تفعله ليس ملء الخاطر، بل هو إملاء من الطبيعة، فالنحلة إذن خاضعة للضرورة سرمدا. أما الإنسان فيمكن أن يسكن الكوخ والمنزل وناطحة السحاب والقصر .. فهو يعيش في ظل حقل واسع من الإمكانات، تضيق عند الحيوان.
#2#
لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الحرية هي بقدر ما هي شرف للإنسان وعنوان رفعة وتميز، هي في نفس الوقت حبل غليظ في عنقه، فثمن الحرية باهظ جدا، إنه المسؤولية.
فإذا كان الإنسان قادرا على الاختيار، فبإمكانه مثلا أن يكون صادقا كما بإمكانه أن يكون كاذبا وبالمثل يمكن أن يكون مجرما وقد يكون تائبا، أي أنه يتميز بالحرية والقدرة على التعامل مع البدائل واتخاذ مهلة للتفكير قبل اتخاذ القرارات، فهذا الأمر يجعله كائنا أخلاقيا بامتياز ما دام بإمكانه أن يأتي بالفعل ونقيضه. فالحيوان المقهور بالحتميات لا مجال للحديث عن المسؤولية في مملكته، بينما الإنسان، وإن كان هو بدوره خاضعا للضرورة، فهو متميز بحريته وقدرته على قول:" لا" مما يجعله متورطا في المسألة الأخلاقية على الرغم عن أنفه ومتحملا لتبعات اختياراته. إذن الحرية والأخلاق وجهان لعملة واحدة، فحذف الحرية من مملكة الإنسان يعني مباشرة أنه محكوم بطريق واحد، ومن ثم لا مسوغ لمحاكمته أو توجيه اللوم له، فإذا ما أخذنا أسدا افترس غزالة، ونظرا لوعيه الغريزي فقط والموجه وجهة واحدة، فهو قد افترس وانتهى الأمر، فلن يفكر أو يعاود النظر ويردد : أنه كان علي أن لا أفترس. لذلك فالحيوان غير قادر على تحمل المسؤولية سواء القانونية العقاب الأرضي أو الدينية الجزاء الأخروي أو الأخلاقية وخز الضمير ، لأنه لا يمكن أن يفعل إلا ما فعل، فحريته محددة ولا مجال للأخلاق في مملكته، فلا أحد منا وجد أسدا يبكي ندما على افتراس الغزالة، ولا أحد وجد غزالة ترفع دعوى قضائية على ظلم الأسد لها. أما إذا أخذنا شخصا قد ارتكب جريمة قتل، فهو ونظرا لوعيه المفكر فيه، أي المركب والمزدوج، فإنه سيفكر فيما فعل وسيعاود الحدث في ذهنه مرات متعددة وسيردد: كان بالإمكان أن لا أقتل، فالإنسان لديه القدرة على الفعل وعكسه. لذلك فهو الكائن الوحيد المتورط أخلاقيا لأنه حر يختار ويتحمل مسؤولية هذا الاختيار.
هذه الأرضية الأولية تسمح لنا بطرح الإشكال التالي : قصد ضمان الأخلاق، هل يجب التعامل مع الإنسان على أساس أنه خاضع للحتميات بيولوجية ، نفسية، اجتماعية، اقتصادية..؟ أم التعامل معه على أنه حر طليق يختار وقادر على التجاوز؟
هذه مفارقة صعبة الحل لأن الإنسان بحق خاضع للضرورة كالحيوان وهذا الأمر يهدد المسؤولية الأخلاقية وفي نفس الوقت نعلم أن الإنسان لديه إمكان الحرية وهو ما يدفعه لتحمل التبعات. فكيف نتعامل مع السارق مثلا؟: هل نعفيه من المسؤولية نظرا لفقره؟ ومن ثم اللوم كل اللوم على الظروف، ونكون آنذاك قد ضربنا بحريته عرض الحائط وأنزلنا مستواه إلى الحيوانية، أم نتعامل معه على أنه إنسان يختار ومن ثم نحمله وزر ما قدمت يداه، مفارقة إذن هي مسألة الحرية والحتمية في مملكة الإنسان! فانعكاساتها على الشأن الأخلاقي واضحة. أم نعمل بالقبول بهما معا كخيار تركيبي. إن تبرئة السارق تحت دعوى الظروف هو هدر لحق الشخص المسروق، ومعاقبته بشدة نظرا لكونه حرا هو قسوة وغلظة لأننا لم نراع وضعيته. إنها بحق إشكالية صعبة الحسم، تبدو ملامحها بوضوح في المحكمة بحيث نجد القاضي يتعامل مع المتهم على أساس أنه حر من جهة والمحامي يبحث عن أعذار لموكله تخفف عنه العقوبة من جهة أخرى.
سنحاول الآن وبعد هذا الطرح الإشكالي أن نتجه ولمزيد من إجلاء مسألة الحرية وارتباطها بالأخلاق صوب الفيلسوف إيمانويل كانط لنرى وجهة نظره في هذه القضية.
إن كانط هو نصير الحرية الإنسانية إلى أبعد مدى، لذلك فهو يرى أنه لا أخلاق دون إعلان حرية الإنسان، وإلا سيسقط الإنسان نحو الهاوية، ولن يبقى منه سوى جزؤه الطبيعي. لهذا نجده وبشيء من المبالغة يرفض عمل المحامي، لأنه ببحثه عن شروط التخفيف يهين بها موكله ويضرب له حريته، فشرف المجرم هو اعترافه وتحمله الوزر بجرأة عالية يحترم بها اختياره، أي إنسانيته. وإليك أيها القارئ بيان ذلك.
الأخلاق الحقيقية إكراه حر
يمكن صياغة هذا القانون الكانطي على الشكل التالي :" افعل بحيث تكون أنت مشرع نفسك" . فكانط يرى أن المرء عليه أن يكون هو مصدر الفعل الأخلاقي كي يتحمل التبعات، وما دام أن العقل هو من يضع القانون حسب ما رأينا في المقالات السابقة قانون التعميم وقانون الغائية فإن الأمر ذاتي مما سيجعل المرء يطيع نفسه. وطاعة الذات قمة الحرية، فعندما تضع القانون بنفسك فإنك تكون أمام إكراه حر تتحمل فيه المسؤولية كاملة. وتخرج بذلك من القصور وتربح كرامتك وعزتك بعدم السماح للغير بأن يقودك، لأنك سيد نفسك. إذن حين أؤدي واجبي لا أخضع في رأي كانط لقوة خارجية أيا كان سلطانها، وإنما أفعل الفعل بما يتفق مع قانون وضعته لنفسي بنفسي، وهو ما جعل الشاعر شيللر، المعجب بكانط والملقب إياه بالحكيم العالمي، يقول عن فلسفة كانط " لا شك أنه ما من إنسان فان نطق بكلمة أعظم من هذه الكلمة التي يقولها كانط والتي تعبر عن مضمون فلسفته كلها: (حدد نفسك بنفسك)".
يرى كانط أن الفعل الأخلاقي الحقيقي تكون فيه أنت مشرع نفسك ولا تنتظر فيه وصاية أحد، وهو ما يمكن الفرد من الاستقلال التام وبشكل بطولي فهو قادر بواسطة عقله أن يرسم الحدود الفاصلة بين ماهو أخلاقي ولا أخلاقي وباتفاق مطلق مع باقي البشرية دون اللجوء إلى أي سلطة خارجية كيفما كانت. فالمرء إذا ما أراد عالم النقاء والخير عليه تدريب نفسه كي يطيع أوامر عقله والتي تكون هي نفسها أوامر أي عقل آخر مما يسمح بالموضوعية والوحدة البشرية ومن ثم تحقيق الكونية المنشودة والتي شكلت أكبر هاجس لكانط، فعندما أود الكذب للخروج من ورطة، فهل سلوكي خير؟ الجواب عند كانط يجب أن يقاس بتطبيق معيار العقل وذلك بالتساؤل : هل فعلي يقبل أن يصاغ كقانون عام، سأكتشف أني لا أريد أن يكذب علي. إذن جعلت نفسي استثناء ووقعت في التناقض لأني شرعت لنفسي ما لم أشرعه للآخرين وهذا خلق ضد العقل.
إن هذا التصور القائم على التشريع الخاص ينسجم وتعريف كانط المشهور للأنوار الذي يقول عنه إنه " تجاوز الإنسان لحالة القصور التي هو مسؤول عنها. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر" كما أن لكانط شعارا آخر متداول يقول فيه للإنسان الذي يريد أن يكون مستنيرا " تشجع واعرف ولتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك" إذن فالإنسان حسب كانط كائن حر لأنه يشرع لنفسه ويقيد سلوكه بنفسه ومن ثم كان الواجب الأخلاقي إكراه حرا، والحرية هنا تعني قدرة المرء على ضبط دوافعه وتنظيم رغباته والتحكم في سلوكه، فهو مقيد بطاعة القانون لا كعبد تستبد به سلطة خارجية بل كرجل حر يقيد سلوكه عن طريق الشعور بالإلزام الباطني، بكلمة واحدة الإنسان يصل مستوى عال من الأخلاقية عندما يكره نفسه بنفسه، فهو بذلك يطيع اختياره، والاختيار حرية.
أستاذ مادة الفلسفة / المغرب.