الأبعاد الاقتصادية لمشروع قناة السويس الثانية

الأبعاد الاقتصادية لمشروع
قناة السويس الثانية

على الرغم من الأهمية الحيوية لمرفق قناة السويس باعتباره أهم شريان مائي في العالم يربط شمال الكرة الأرضية بجنوبها، ويختصر المسافة التي تسلكها السفن بأنواعها المختلفة العابرة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر ثم إلى المحيط بصورة جوهرية؛ فإن المتتبع لحركة النقل في القناة والإيرادات التي تتولد عنها يلاحظ أن المرفق بشكله الحالي قد بلغ طاقته القصوى، وأصبح يواجه قيودا بالفعل حول عدد وحجم السفن التي يمكن أن تعبر فيه بشكل يومي.
أكثر من ذلك، فإن قدرات منطقة القناة على تقديم كل الخدمات اللوجستية للسفن التجارية في العالم بشكلها الحالي تعد محدودة للغاية، كذلك فإن الدور الذي يمكن أن تلعبه القناة في تهيئة المنطقة؛ لأن تصبح مركزا تجاريا وكوحدة لإعادة التصدير في العالم شبه معدوم تقريبا.
يوما بعد يوم يتزايد حجم التجارة العالمية، وتتزايد بالتبعية أنشطة النقل البحري للأغراض المختلفة، خصوصا التجارية، وتزداد أعداد السفن، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب على خدمات قناة السويس.
وقد واجهت مصر هذا النمو من خلال المشاريع المختلفة لتوسيع القناة وتعميق المجرى الملاحي لكي يكون قادرا على استيعاب سفن أضخم وأكثر سعة، لكن يظل القيد الأساسي على القناة في شكلها الحالي يتمثل في الحد الأقصى لعدد السفن التي يمكن أن تمر في القناة يوميا ذهابا وإيابا، في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد السفن على النطاق العالمي كنتيجة للنمو في حجم التجارة العالمية بين الشمال والجنوب.
من هنا بدت الحاجة إلى التفكير "خارج الصندوق" من خلال مشروع لشق قناة أخرى موازية للقناة الحالية، على النحو الذي يضاعف من طاقة منطقة القناة على استيعاب المزيد من السفن العابرة وبحمولات أضخم، فضلا عن التفكير في إنشاء عدد من التسهيلات التي تعمل على خدمة حركة النقل من خلال القناة.
منذ عدة أيام، أطلقت مصر شارة البدء في المشروع العملاق مستهدفة تخفيض مدة إنشاء المشروع إلى أقل مدى زمني ممكن، والعمل على تطوير منطقة القناة وشبه جزيرة سيناء على النحو الذي يعظم من العوائد التي تتحقق لمصر من وجود وصلتين للنقل البحري في المنطقة.
ومن المتوقع أن يترتب على المشروع تحقيق مكاسب ضخمة للاقتصاد المصري تسهم في زيادة حصيلة الدولة من النقد الأجنبي، وتساعد على تنويع مصادر الدخل، وتوفير المزيد من الوظائف، فضلا عن استيعاب المزيد من السكان في المنطقة، وتخفيف الضغوط السكانية على مناطق التجمع التقليدية في مصر.
الأثر المباشر لشق القناة سيتمثل في مضاعفة إيرادات قناة السويس من النقد الأجنبي، التي تعد من أهم مصادر النقد الأجنبي في الدولة بعد تحويلات المصريين العاملين في الخارج وإيرادات السياحة، وهو ما يعمل على زيادة مستويات الدخل القومي، ورفع متوسط نصيب الفرد من الدخل.
لكن الإسهام الحقيقي للقناة الثانية يتمثل في الآثار الانتشارية التي سيخلقها مثل هذا المشروع من الناحية الاقتصادية، بصورة مباشرة وغير مباشرة وهي عديدة، حيث ستتحول طبيعة القناة من مجرد مصدر لتحصيل الرسوم على السفن العابرة، إلى لعب دور أعمق في تنمية الاقتصاد المصري.
وستتحول بالتبعية منطقة القناة إلى أهم المناطق الجغرافية في مصر، وأحد أهم مراكز توليد الدخل في الاقتصاد المصري، إذا تم استغلال الفرص الكامنة التي يمكن أن يطرحها المشروع على مصر على نحو كفء.
عبر قرون طويلة ظلت منطقة سيناء من المناطق شبه المهجورة، رغم الفرص الكبيرة التي يمكن أن تطرحها المنطقة في المجالات المختلفة للإنتاج والخدمات والسكن.
لهذا السبب ظلت سيناء فترة طويلة فقيرة في البنى التحتية المتاحة فيها، وهو ما أثر سلبا في طاقتها الاستيعابية للسكان؛ نظرا لضعف جاذبيتها وضعف عمليات الاستثمار المنتج فيها، وذلك رغم الفرص الكامنة التي يمكن أن تتيحها المنطقة لاستيعاب أعداد كبيرة من سكان مصر. وفي ظل معدلات النمو السكاني الكبير التي تواجهها مصر في الوقت الحالي، ستظل الأعداد الكبيرة من السكان أهم التحديات التي تواجه عملية التنمية في الدولة على الإطلاق، لما تفرضه من ضغوط شديدة حول تسهيلات السكن وفرص العمل والضغط على الخدمات والبنى التحتية في مراكز التجمع السكاني التقليدية.
لذلك فإن تنمية منطقة سيناء تقدم فرصة استثنائية لاستيعاب الملايين من سكان مصر، والعمل على خلخلة التركز السكاني في مناطق تجمع السكان، فقط تحتاج المنطقة إلى توفير خدمات البنية التحتية اللازمة للسكان، والبدء في إعداد خطة شاملة لتنمية المنطقة اعتمادا على الشريان الجديد.
ومما لا شك فيه أن استمرار أوضاع الاقتصاد المصري بصورتها الحالية، وفي ظل النمو السكاني الكبير، ستشكل السكان كارثة مستقبلية ناجمة عن التحديات المرتبطة بالنمو السكاني التي أهمها هي كيفية استيعاب هذه الأعداد المتزايدة من السكان وتوفير الخدمات المختلفة لهم من سكن وكهرباء وماء ونقل وخدمات تعليمية وصحية وترفيهية.. إلخ.
وفي الوقت الحالي، أصبحت كل المدن في مصر مكتظة بالسكان، وأخذت الأبعاد السلبية للنمو السكاني في الظهور على السطح بصورة واضحة في صورة ضغوط ضخمة على التسهيلات الخدمية من كهرباء ومياه ومواصلات واتصالات.
ناهيك عن الضغوط على التسهيلات المرتبطة بالخدمات الأساسية للسكان، فضلا عن تدهور طبيعة البيئة المحيطة بهم، أكثر من ذلك فقد بدا واضحا للعيان، خصوصا بعد ثورة يناير، طبيعة التحديات الأمنية والبيئية واللوجستية للتركز السكاني الكبير للمصريين في المناطق السكنية التقليدية.
إن خلخلة التركز السكاني في مصر أصبحت من أهم الأولويات التي يجب أن يأخذها صانع السياسة في الاعتبار، حتى يخفف من آثار النمو السكاني السلبية على النمو الاقتصادي، وهذا لن يتم سوى بأمرين أساسيين، الأول هو إنشاء تجمعات سكنية جديدة في مناطق أخرى في مصر ومدها بالخدمات الأساسية والتسهيلات اللازمة لحياة الناس.
والثاني فتح فرص عمل منتجة في هذه المناطق الجديدة لضمان توافر الوظائف أمام المهاجرين من السكان إلى هذه المناطق، حتى تتحول بالفعل هذه التجمعات السكنية الجديدة إلى مراكز فاعلة لجذب السكان، وخصوصا من الشباب، حيث ترتفع أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل سنويا على نحو مقلق، وفي ظل ضيق فرص فتح عدد مناسب من فرص العمل أمام هؤلاء يظل شبح البطالة أخطر التحديات أمام هؤلاء.
ومن الواضح من تفاصيل المشروع الجديد أن خطة مصر تستهدف ليس فقط إنشاء مجرى ملاحي جديد، وإنما أيضا تحويل طبيعة المجرى الملاحي إلى مركز متكامل للخدمات البحرية واللوجستية، حيث يفترض أن تقام في منطقة القناة مشاريع تستهدف تحويل القناة من مجرد وصلة مائية إلى مركز لخدمات النقل والشحن البحري ومراكز لتسهيلات التخزين وإعادة الشحن للبضائع، على النحو الذي يساعد على تحويل المنطقة إلى محطة عالمية لإعادة التصدير مستفيدة من وقوعها على القناة.
هذا فضلا عن الاستثمار في المشاريع المتخصصة في تقديم التسهيلات اللوجستية للسفن مثل التموين والصيانة والإصلاح وتوفير الإمدادات الغذائية وإمدادات الوقود وغير ذلك مما تحتاج إليه السفن أثناء رحلاتها الطويلة بين مراكز الإنتاج ومراكز الاستهلاك.
كذلك فإنه من الممكن أن يقام على ضفتي القناة عدد من المناطق التجارية الحرة التي تسهم في زيادة الحركة التجارية بين مصر والعالم، وتساعد على تنويع مصادر الإنتاج والدخل. أكثر من ذلك فإن إنشاء القناة الجديدة سيقدم فرصا ضخمة للنمو، ففيما بين القناتين يمكن أيضا أن تنشأ إحدى كبريات المناطق الصناعية في مصر التي توجه أساسا نحو التصدير إلى الخارج، من خلال التخطيط المناسب لهذه المناطق بإنشاء سلسلة من الصناعات العنقودية المتكاملة، والمعتمدة أساسا على عنصر العمل، للاستفادة من الميزة النسبية التي تتمتع بها مصر حاليا والمتمثلة في رخص عنصر العمل، نظرا لانخفاض مستويات الأجور بشكل عام، وعلى النحو الذي يسهم في جذب الاستثمارات المباشرة، سواء الوطنية أو الأجنبية للاستفادة من هذه الميزة، وبما يساعد على استيعاب الأعداد الجديدة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل من الشباب، للحد من اتجاهات البطالة بينهم.
ففي أعقاب ثورة يناير، دخل الاقتصاد المصري في مرحلة كساد وتوقف الإنفاق الاستثماري في الأنشطة الإنتاجية، متأثرا بطبيعة الفترة الانتقالية التي مرت بها مصر في أعقاب الثورة، وتدهورت بالتالي قدرة الاقتصاد المصري على فتح فرص العمل المنتج، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة على نحو واضح.
وتشير الدراسات حول الاقتصاد المصري إلى أنه في ظل استمرار الأوضاع الحالية من المتوقع أن ترتفع معدلات البطالة لتصبح أحد أخطر التحديات التي تواجه مصر في ظل النمو السكاني المتزايد، التي تتطلب حزمة من السياسات الهادفة إلى تشجيع الاستثمار في المجالات المختلفة لفتح عدد كاف من الوظائف سنويا يتوافق مع الأعداد الكبيرة التي تدخل سوق العمل في كل سنة في الوقت الحالي، ومن هنا تأتي الأهمية الحيوية لمثل هذه المشاريع باعتبارها طوق النجاة لمواجهة تحديات البطالة في الاقتصاد المصري.
أما عن البعد الأمني للمشروع، فمما لا شك فيه أن القناة الجديدة تمثل عائقا طبيعيا جديدا بين مصر وإسرائيل التي بهذا الشكل ستمثل أحد خطوط الدفاع الطبيعية الجديدة لمصر في أي حروب مستقبلية أخرى يمكن أن تنشأ مع إسرائيل، حيث تجعل من مهمة إعادة احتلال سيناء مرة أخرى مهمة أصعب وأخطر وأكثر تكلفة، وهو ما يضيف إلى القناة الجديدة العديد من المزايا الاستراتيجية للعمق الدفاعي المصري.
لقد آن الأوان لتنمية منطقة سيناء، تلك المنطقة التي ظلت عقودا طويلة خارج اهتمام صانع السياسة في مصر ومحرومة من الخدمات الأساسية والبنى التحتية على النحو الذي أفقد مصر الفرص الكامنة التي يمكن الاستفادة منها من خلال تنمية المنطقة وجعلها أحد مراكز الإنتاج الأساسية في مصر، وهذا هو أحد الأهداف الأساسية للمشروع الجيد لمصر.

الأكثر قراءة