المعنى.. معضلة النقد الجديد
لأنه فشل في وضع مفاهيمه داخل إطار نظرية مناسبة، بقي النقد الجديد عاجزاً عن التنظير والشرح. هذا ما تستنتجه كاثرين بيلسي في محاولتها لتقويم "الممارسة النقدية" فيما يبدو قراءة مضادة للحداثة النقدية في تصديها المنهجي لمفهوم "الحس العام" فما يقترحه هذا النهج القرائي الجماهيري لا يُظهر في الغالب مقدرة على فهم عميق للأدب، وعليه شككت الممارسة النقدية الجديدة بوصفها نظاماً مفتوحاً وقابلاً للتطور في فرضياته ومعتقداته فهو مبني على أساس أيدلوجي واستطرادي مرتبط بموقف تاريخي معين، ويعمل في إطار تشكيلة اجتماعية محددة.
ذلك هو ما يفسر العدد المتزايد من المدارس النقدية المتوّلدة في الأساس من تعددية القراءات التي تنتقي من النص نقاط ارتكاز غائرة، وتتسبب بالتالي في قطيعة جمالية معرفية مع المتلقي نتيجة اللغة المتعالية أيضاً، فخطر الاستمرار في إنتاج مفاهيم نقدية غير مألوفة يكمن في حقيقة أن هذه المفاهيم قد يصعب الوصول إليها أو ربما حتى بذل الجهد في فهمها وتعلمها، وهذا الخوف يشبه الحل الذي يطرح مفهوم "الحس العام" الذي يقضي بعد أي خطاب نقدي لا يتفق مع ذلك الحس هو حالة لغوية غير ضرورية.
وإذ تميل إلى إدانة النقد الاستهلاكي الذي لم يعد ملائماً للطرق الجديدة في فهم اللغة والعالم، تتقصى في الآن نفسه جملة من المعوقات الذوقية المعرفية، لمراكمة أسباب فشل النقد الجديد كما تراها في انهمامه أيضاً بتتبع المضامين النظرية، والعجز عن تطوير طروحاته فيما يتعلق بتحليل العلاقة بين اللغة والمعنى، من حيث رفضه للفكرة المثالية التي تقول إن المعنى يطفو في فضاء أكثر رمزية بعيداً عن اللغة في أذهان الناس، حيث يفترض النقد إمكانية القراءة البريئة أو التجابه مع كلمات النص غير المشوبة بتجارب نصوص أخرى.
وبالضرورة يفترض أن يتجاهل النقد عناصر التناقض المساعدة على الفهم مركزاً على عناصر الخلاف والتشابه بين النص والمعنى، بوصف أن الممارسة النقدية تعتقد بكون النص هو المادة الخام، وأن المعاني تتوزع بين النص والأيدلوجيا والقارئ، وينحصر عمل الناقد في استخراج المعاني الممكنة، وعليه تؤكد أن الممارسة النقدية الجديدة تتصالح بالضرورة مع مفاهيم الأيدلوجيا والفاعلية المستمدة من مجالات لا علاقة لها بالنظرية أو بممارسة نقدية مستقلة، إذ لا يمكن عزل النقد عن مجالات المعرفة الأخرى.
النقد كممارسة معني بكل ما يمكن قراءته في النص الأدبي. وهو في الأصل منهج غير متطفل على النصوص الأدبية بذاتها، فمنطق النقد الجديد يفترض أن النص يعني ما كان يعنيه دائماً، وعليه فإن البحث عن جمالية الحقيقة/المعنى هو الوظيفة المركزية للممارسة النقدية، مهما بدت الحقيقة أكثر تعقيداً وغموضاً وتناقضاً مما هي عليه في الواقع، ولكن النقد الجديد، حصر وظيفته في التحليل الموضوعي للنص، فعلاقته بكل أنواع الخطاب، ما عدا الخطاب الشعري أدت إلى عزلته أكثر فأكثر عن الاهتمامات الأخرى. وكنتيجة لهذه المواقف فقد أصبح مبتذلا وعقيماً في بحثه عن الأشياء الغامضة والمعقدة.
مشكلة المعنى إذاً، هي أهم مشكلة واجهت نظرية النقد الجديد، بما فيها النظرية التعبيرية التي عدت النص أحادي المعنى، بوصف أن مصدره الكاتب، فالمعنى هو ما يضعه الكاتب في النص، وهو أمر مرفوض بالنسبة للمنظّرين الأكثر حداثة، فحسب نظريات التلقي الحديثة، ليس منتج النص هو المصدر الوحيد للمعنى، حيث أكدوا وجود القارئ، بما هو السلطة الجديدة لهذا المعنى، حيث يصبح النص حقلاً مفتوحاً لعدد غير محدود من القراءات عندما يخرج النص من استبداد الكاتب، وتتوافر إمكانية الخوض في غماره بطريقة منهجية واعية، فبقدر ما يفقد الكاتب السلطة الكلية على النص، لا يبدو العمل الذي يحاول أن يشرحه الناقد، هو نفسه الذي أنتجه الكاتب.
ولأنها تحاول أن تنأى بمحاولتها النقدية عن الذاتية تستعين باجتهادات فصيل من النقاد كرينيه ويلك مثلاً، القائل بعدم تمكن هذا النقد من تجنب مخاطر التحجر والمحاكاة العمياء، رغم وجود فرص التغيير، وذلك بالتحديد هو ما يجعلها تجزم بأن النقد الجديد يشكل إرثا نقدياً متناقضاً فهو يدعو إلى التحرر من السلطة المطلقة للنظرية التعبيرية من جهة ويمنع نفسه من الاستفادة من هذا التحرر بالتزامه بالتجريبية وطروحاتها المثالية، وكأنه لا يريد، أو ليس بمقدوره ربما، مغادرة المكامن التي تمنع اندفاعه نحو تخوم مختلفة تختبر فرادته الرؤيوية، من خلال ما يبديه النقاد الجدد من عناية بالغة بالتفاصيل المملة والدقيقة.
النقد الموجود حالياً، كما تنقل عن نورثروب فراي، لا نظام فيه، فهو ذري حدسي وانتقائي، وهو مجرد طقس يقوم على آلية الإحساس التي تشوش فكرة الحصول على ذوق رفيع واضح، فيما يفترض بالمعرفة الصحيحة أن تحذو حذو كل أشكال النقد التجريبي لأن مواضيع أي تمحيص عقلاني لا يمكن أن تكون موجودة مسبقا وإنما تأتي مع الفكرة، أو هكذا يفترض أن تكون العلاقة التفاعلية بين النقد والنص، عند تقديم النقد كخطاب حفري معني بالقيمة الموضوعية للنص، فهو كممارسة علمية ليس مجرد عملية معرفية صرفة، وإنما محاولة تأويلية لإنتاج المعنى بكي تشظياته الجمالية.