«العادة والشريعة» (2)

 «العادة والشريعة» (2)

حين تقرأ في القواعد التي رسمها الفقهاء بالتنصيص وهي مستقرأة من الشريعة، وعرفت باسم «القواعد الفقهية» وتتسم بالكلية في كثير من مواردها، بل يفترض أمرها كذلك في الجملة، وإن كان الضابط الفقهي صار يعبر عنه عند كثير من الفقهاء بالقاعدة، وبكل تقدير فهذا ترتيب اصطلاحي عند التحقيق، والمقصود أن من عداد تلك القواعد تلك القاعدة التي جاءت عباراتها عند الأكثرمن علماء القواعد الفقهية بقولهم: «العادة محكمة» ومع كون هذه القاعدة من أشهر القواعد إلا أن فقهها يدخله مادة من زيادة الطرد تارة، ومادة من التفريغ والنقص أخرى، فصار يفرض عند بعض الناظرين في هذه القاعدة إدخالها في أدلة التشريع أي: تشريع الأحكام ابتداء، وهذا محل وهم كثير من العوام السامعين بها وبعض الخاصة من أهل البحث والكتابة، فإن هذه القاعدة لا يراد بها أن العادة يثبت بها أصل التشريع؛ فإن التشريع يكون بدليله المناسب له، وإنما المراد بكونها دليلا عند التعبير به أنها من أدلة وقوع الأحكام، وليست من أدلة التشريع الأصلية، وكأن كلمة «محكمة» التي وصفت العادة بها توقع هذا اللبس عند كثير، والمقصود هنا اعتبارها فالعادة محكمة بمعنى: معتبرة، وإلا فهي لا تستقل بحكم وإن كانت تعتبر في تنزيل الوقائع وتحكيمها.
وترى أثر هذه القاعدة في كثير من العقود وفقه الشروط، ويتصل مقام «العرف» هنا وإن كان ليس مرادفا للعادة، بل هذه أسماء متواطئة على الصحيح، وإذا نظرت الحقائق التي تفسر خطاب الشارع عند الأصوليين فإن كثيرا منهم يذكر الحقيقة الشرعية واللغوية والعرفية، وفي التطبيقات الفقهية في كتب الفروع أثر العرف في قيامه مقام الشرط إذا تحقق، وطرد فقه قاعدة «العادة محكمة» يتصل بمقام «فقه السياسة الشرعية» فإن الأمور المستقرة مع ثبوت مناسبتها لا يصار إلى رفعها؛ لأن العادة المستقرة على وجه مناسب هي نوع من النظام الذي يضبط أحوالاً لكثيرمن الناس، والمزاج البشري في أكثر الأحوال أو كثيرمنها لا يقبل التحول المفاجئ، بل يقع عنه نوع من اجترار المفاسد واضطراب الموازين والنظر عند البعض، وفي الجملة فاعتبار الشريعة للعادة على هذا المقام من الرتبة هو من أخص الأدلة على اعتبار الشريعة للطبيعة البشرية وما يداخلها من النقص والتردد، وعن هذا ترى أن من قواعد التشريع كونه مناطا بالقدرة والاستطاعة كما ذكر في التنزيل في قول الله: ?لا يلكف الله نفسا إلا وسعها?. وقول الله: ?وما جعل عليكم في الدين من حرج?. ومن صار له فقه مناسب عرف ما تضمنته أصول الشريعة وقواعدها من ترتيب الأحكام على منازل النفس البشرية، وهذا فقه مفصل في مبتدأ مقاماته وفروع نتائجه يعرفه أهل الفقه والاعتبار، والله الهادي.

الأكثر قراءة