«جاليليو» وإرساء قواعد التجربة الخيالية

«جاليليو» وإرساء قواعد 
التجربة الخيالية
«جاليليو» وإرساء قواعد 
التجربة الخيالية

إذا ما سألت أحدا عن مؤسس الفيزياء الحديثة يذكر لك مباشرة اسم العالم جاليليو: فهناك شبه إجماع على مكانته في نقل العلم من باراديم إلى آخر، فهو مكّن من إعطاء الفيزياء التي تتناسب والثورة الفلكية "الكوبرنيكية" القائمة على مركزية الشمس، فالعلاقة ما بين مؤسس الفلك الحديث ومؤسس الفيزياء الحديثة لا تحتاج إلى كثير توضيح، فجاليليو الذي دخل في نزاع مع الكنيسة لمدة 20 سنة كان مدافعا عنيدا عن "الكوبرنيكية"، بل هو الذي زج بها بشكل علني نحو الصراع، ببحثه عن الدلائل والحجج الملموسة وليس الرياضية فقط لإثبات مركزية الشمس.
لقد استطاع جاليليو تطوير المنظار الهولندي ومضاعفة قوته إلى أزيد من 30 مرة موجها إياه نحو السماء في سنة مشهورة هي 1609م، فدون بعدها ملاحظاته في كتاب تحت عنوان "رسول إلى النجوم" كانت بمثابة صفعة لأرسطو ونظامه المتآكل آنذاك، لأنه استطاع أن يكتشف نجوما جديدة، وهو ما جعل مملكة السماء تتسع، كما اكتشف أقمارا أربعة للمشتري تدور حوله مما يعني أن الدوران يمكن أن يكون لغير الأرض وهو ما يجعل فكرة مركزية الأرض مهددة، كما نشر أول خرائط حول القمر الذي أصبح شبيها بالأرض، فبه الوديان والجبال، وسطحه ليس ناعما أو مصقولا، لكنه سطح وعر وغير مستو، فيه النتوءات والهوات العميقة والتعرجات... ما يجعل فكرة كمال العالم العلوي القديمة تنهار.
ولم يكتف بذلك بل عمد على الكتابة بالإيطالية عوضا عن اللاتينية لجعل أفكاره تصل إلى عامة الناس وهو ما كلفه محاكمة مست بكرامته وهو شيخ عجوز، جعلته يقضي ما تبقى من حياته في إقامة جبرية. لكن يبقى الأهم من كل هذا هو تجاربه العلمية القائمة على قوة النظر والخيال العميق، والتي فتحت الطريق نحو اكتشاف الطريقة الملائمة لفضح سر الطبيعة وجعلها تبوح بأسرارها، ففهم الإنسان من خلالها أن الحقيقة بناء يشيد بجهد الذات، فالطبيعة لا تعطي مكنونها إلا للذين يسائلونها بذكاء. فلنلق نظرة على ملامح تجارب جاليليو التي خلدها التاريخ.
•-جاليليو: التجارب الذهنية والعزل المنهجي:
إن أهم ما يمكن اقتناصه من المنهج العلمي في القرن الـ 17 بزعامة جاليليو هو فكرة "العزل المنهجي" و"اصطناع التجارب" فالتعامل مع الطبيعة بشكلها الخام لن يكشف غطاءها ولن يعطي وجهها الباطن، وهو ما تنبه له الفيلسوف كانط في مقدمة كتابه "نقد العقل المحض" حينما قال: "حين ترك جاليليو كراته تتدحرج هابطة على سطح مائل بأثقال سبق له تصميم أوزانها... عنذئد أشرق نور على عقول جميع الباحثين في الطبيعة. لقد فهموا أن العقل لا يدرك إلا ما ينتجه هو وفق خطة من وضعه... وأن عليه أن يرغم الطبيعة على الإجابة عن أسئلته، وألا يترك نفسه ينقاد بحبال الطبيعة وحدها ... إذ عليه أن يواجه الطبيعة لكي يتعلم منها، ولكن ليس بوصفه تلميذا يتقبل كل ما يريده المعلم، بل بوصفه قاضيا يحث الشهود على الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليهم".
فجاليليو مثلا عندما أراد دراسة سقوط الأجسام، قد قام بتجربة ذهنية، بالأساس، فهو لما رأى أن دراسة السقوط الحر في الطبيعة صعب المنال، لأن السقوط العمودي الحقيقي لا يمكن ضبطه والطبيعة لا تقدم لنا الظواهر كما نريدها، سيضطر إلى التدخل والقيام بتجربة مصطنعة ومستحدثة وذلك بعزل الظاهرة وأخذها إلى المختبر، حيث صنع سطحا مائلا وأحضر كرة حديدية وبدأ يسقطها ويقيم المقارنة بين المسافة وزمن السقوط، فاستنتج جاليليو: أن السقوط يتم بشكل منتظم وهو ما يسمح بالتنبؤ. وكان ذلك أول قانون في السقوط الحر يكتشف، وهو القانون الذي لم تبح به الطبيعة إلا بعد التدخل المنهجي القائم على التخطيط للتجربة وعزل الظاهرة زمنا تم إجبارها على الجواب. والأمر نفسه يقال عن قانونه الآخر القائل بأن "الأجسام الساقطة في الفراغ، حيت تنعدم كل مقاومة، تسقط كلها بسرعة واحدة مهما اختلفت أوزانها وطبيعتها". فهو قانون يبرز قوة التجربة الذهنية في المنهج العلمي. جاليليو قام بتجربة في غياب إمكانية الحصول على الفراغ تجريبيا، فالفراغ لم يكتشف إلا بعد موته مع تور شيلي وباسكال. وتجربته كالتالي:
لاحظ جاليليو بداية، كما يلاحظ كل الناس أن الأجسام لا تسقط بالسرعة نفسها وذلك نظرا لاختلاف أوزانها. الجسم الثقيل يسقط قبل الجسم الخفيف إذا أطلقا من ارتفاع واحد (كرة حديدية وريشة مثلا)، لكن جاليليو تنبه بعد تدقيق نظر إلى أن هناك معطى آخر يتم إهماله في عملية السقوط إنه الوسط الذي يحدث فيه السقوط (هواء، زئبق، ماء..) ألا يكون له تأثير أيضا في سرعة السقوط. فالسقوط في الماء غيره في الهواء مثلا ...الآن نحن أمام احتمالين:
1- اختلاف سرعة الأجسام الساقطة يرجع إلى اختلاف وزنه.
2 - اختلاف سرعة الأجسام الساقطة يعود إلى مقاومة الوسط الذي تتم فيه عملية السقوط.
وهنا كان لا بد لجاليليو من تجربة حاسمة، وكانت على الشكل التالي:
إذا وضعنا الذهب والرصاص ومعادن أخرى فوق سطح إناء مملوء بالزئبق. باعتباره أكثر كثافة من الماء نجد أن الذهب يسقط حتى القعر بينما المعادن الأخرى بقيت فوق السطح. فهذا يدل قطعا على أن الوسط يؤثر بشكل كبير في عملية السقوط. من هنا افترض جاليليو لو أن المقاومة غير موجودة في الوسط ماذا سيحدث أثناء عملية السقوط؟ فالاحتمال المرجح حسب التجربة الأولى هو أن السقوط سيتم في الوقت نفسه. إنه فرض مرجح لكنه يحتاج بدوره إلى تأكيد من طرف التجربة لنتأكد هل هو فرض تخميني أم هو فرض صحيح أي قانون؟. إن تحقيق هدا الفرض يتطلب إجراء التجربة في وسط خال من المقاومة تماما، أي في الفراغ. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ وعصر جاليليو لا يتوافر على المضخة أو الوسائل والتقنيات التي تمكن من إجراء التجارب في الفراغ. أمام هذا العائق لجأ جاليليو إلى (تجارب ذهنية) أي الاستعانة بالفكر والخيال والحرص على ...الفروق الدقيقة. هذه التجربة الذهنية مكنت جاليليو من استنتاج أن السرعة في السقوط ليست مرتبطة لا بالثقل ولا بطبيعة الجسم بل مرتبطة بوسط السقوط.

#2#

ولعل ما يزيد من توضيح المنهج العلمي القائم على عزل الظاهرة المدروسة في شروط مثالية والذي تم تأسيسه مع جاليليو والذي سيوجه الفكر البشري إلى حد الساعة هو مبدأ "القصور الذاتي" الفيزيائي فهو أيضا ليس واقعيا بل افتراضيا، ينطلق من فكرة مفادها أنه: إذا ما عزلنا جسما ماديا عن كل تأثيرات القوى المسلطة عليه، فماذا سيحدث؟ أكيد هناك جوابان: إما سيبقى الجسم في حالة سكون أو في حالة حركة مستقيمة منتظمة مادام لا تعترض سبيله أي قوة أخرى. هذه التجربة لا تتحقق واقعيا لأنه في الأصل لا يمكن إيجاد جسم معزول عن القوى الأخرى واقعيا، ولكن هو افتراض وعزل ذهني ومنهجي من خلاله تم التأسيس لفيزياء كاملة، لأنه سمح لنا بتغيير نظرتنا للمادة فالجسم مع هذا المبدأ هو في الأصل ليس حرا بل خاضع لقوى تتربص به. فإذا كان أرسطو يرى أن الأصل في الجسم هو الثبات والسكون فإن هذا الأمر ومن خلال مبدأ القصور الذاتي مع جاليليو سيتغير ليصبح الأصل في الجسم هو الحركة، فالسكون هو حركة أيضا، لأن السفينة هي ساكنة بالنسبة للبضائع فوقها ولكن هي متحركة بالنسبة للميناء. فإذا كنت ساكنا في جهة فأنا متحرك بالنسبة لجهة أخرى.
قدمت هذه النماذج من عمل جاليليو لأبرز نوعية المنهج الذي سيرهن الزمن الحديث وخلاصة هذا المنهج هو: أن نقوم بعزل الظاهرة في ظروف نموذجية ومثالية كي نحصل على منطلق واضح وبعدها يسهل بناء تصورات وأفكار على ضوء هذا المنطلق. ومن ثم فالعلم مثالي بطبعه ومرهون بالذات الإنسانية وقوة خيالها. فهل شعوبنا تدرب أطفالها كفاية على تنمية خيالهم كي يصنعوا حلولا لمآزقها، أم ستظل تستورد حلول الآخر دائما، وكأن الخيال الخلاق حكر على بشر بعينهم؟ 

*أستاذ الفلسفة - المغرب

الأكثر قراءة