تصادم العامية والفصحى.. خسائره لا تحصى!!
يروي الكاتب العراقي خالد القشطيني قصصا طريفة تتناول البون الشاسع أحيانا بين معنى كلمة عند استخدامها من أهل الفصحى واستخداماتها الشعبية البسيطة فيقول إن الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف حين أمعن في عملية التأميم وتوسيع القطاع العام حاول انتهاز فرصة زيارته لمناطق ريفية ليثبت العكس فألقى خطابا قال فيه " إن حكومة الثورة تدعم القطاع الخاص .. فانبرى له أحد الفلاحين الحاضرين مشجعا وقاطعه قائلا " سيدي ادعمه واسحق رأسه".
لا تقف تلك الكلمات المتقاطعة في المعنى والمتطابقة حرفيا عند الدعم الذي يراد له معنى الإسناد والمساعدة عند أهل الفصحى و يستخدم عاميا للدلالة على الاصطدام وفي مصر حين يقول أحد أصحاب النوايا الطيبة إن عملا ما بحاجة إلى دماغ وليس أي دماغ سترمقه أعين تعني بها معنى آخر وفي السعودية تتعدد القصص التي تروى في هذا الشأن لاصطدام المفردات بمعان متباينة.
إذ تتميز العامية بتحررها من التقييد والأحكام اللغوية لتنطلق على سجيتها الكلامية باعتبارها اللغة المحكية، بينما تُحدّد الفصحى بأحكام الصرف والنحو والألفاظ الدلالية المنتقاة و تقتصر العامية بتشعب لهجاتها المختلفة على مجموعات سكانية مُتمَيّزة في البلد الواحد من جراء تعايش المجاميع في مواقع جغرافية متفاوتة من البلد كشماله، ووسطه وجنوبه، بينما تفرض الفصحى نفسها على البلد قاطبة من خلال العملية التعليمية والإعلامية رغم انحصار تأثيرها واستعمالها على النخبة الخاصة والمُتَمَيّزة بحكم العمل الوظيفي والشؤون الرسمية .
يقول علماء لغة إن اتساع رقعة لهجات القبائل والتزام كل قبيلة بما وقفت عليه رغم تفاوتها واستعصاء فهمها وإدراكها، فإنها لم تكن حاجزاً ومانعاً في طريق خلق لغة مشتركة، حيث إن اتساع رقعة لهجة أو لغة ما بما تتميز به من المرونة والسهولة والسلاسة والفاعلية تكون دافعاً لتوليد لغة مشتركة ومُوَحَّدة وبالتالي ُوَحَّدة للناطقين بها. وهذا ما حصل في اللغة العربية قديما من خلال لهجة قريش التي كان لها القدح المُعَّلى بين كافة اللهجات وذلك لأسباب منها أهمية الموقع الجغرافي لقبيلة قريش وما تمتعت به من شرف وسؤدد وثراء حيث كانت قبلة سياحة العرب و دور أسواق المناسبات التي غلبت عليها لهجة قريش لكونها أهم الأسواق وأشهرها مثل سوق عكاظ وذي المجاز في ضواحي مكة.
إلى جانب تمتع لهجة قريش بصفة الأكثر قرابة للفصاحة والشمولية، وأقل اللهجات عيوباً وهفوات. وفي ذلك يروى الجاحظ أن معاوية سأل يوماً: من أفصح الناس ؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا من لخلخانية الفرات وتيامنوا عن كشكشة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر ، ليست لهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حِميَر . قال من هم ؟ قال: قريش.
ويعود ذلك لدور لغة الحضارات الأخرى ودياناتها على تطعيم لهجة قريش بما ينقصها ويزيد من شأنها وذلك من خلال التبادل التجاري وعلى وجه الخصوص مصر والشام والفرس والروم يؤكد ذلك الكاتب الشهير جرجي زيدان الذي أوضح أن الشعر كان من وسائل قريش لفرض لهجتهم وهو الوسيلة الإعلامية الأهم حينها وأستشهد بقول أحد المستشرقين (بروكلمن) حين قال ( تمتاز لغة الشعر العربي بثروة واسعة في الصور النحوية ، وتُعَدُّ أرقى اللغات السامية تطوراً من حيث تركيبات الجمل ودقة التعبير ، أما المفردات فهي غنية غنى يسترعي الانتباه ، ولا بدع فهي نهر تَصُب فيه الجداول من شتى القبائل).
وبالعودة إلى اختلاف الإفهام في اللغة الواحدة تثبت المراجع اللغوية أنها ليست مشكلة العصر الحالي فقط بل إنها قديمة قدم اللغة فهذا أبو زيد الأنصاري أحد فطاحلة العربية يعطي إعرابيا دينارا ليفسر له ما لم يستطع إدراكه من كلامه الذي كتبه الأنصاري بعد أن ساوره الاستغراب من لغة ذلك الأعرابي الذي قال:
(...... إني امرؤ من هذا الملطاط الشرقي، المواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون محش، فاجتبت الذري، وهشمت العري، وجمشت النجم، وأعجبت البهم، وهمت الشحم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا، والنبط قعاعا، والضهيل جراعا، والمقام جعجاعا، يصبحنا الهاوي، ويطرقنا العاوي، فخرجت لا أتلفع بوصيده، ولا أتقوت بمهيده، فالبخصات وقعه، والركبات زلعه، والأطراف فقعه، والجسم مسلهم، والنظر مدرهم، أعشوا فأغطش، وأضحى فأخفش، أسهل ضالعا، واحزن راكعاً، فهل من أمر بمير، أو داع بخير، وقاكم الله سطوة القادر، وملكة الكاهر، وسوء الموارد، وفضوح المصادر....)