أبو العُرِّيف.. الشخصية الكرتونية
من المهارات التي نحتاج إليها جميعاً، مهارة فهم الآخرين، والمعرفة بأنواع الشخصيات التي نتفاعل معها في حياتنا الخاصة والمهنية. فمن المعروف أن للناس شخصيات متنوعة، تنعكس على طريقة تفكيرهم وتعاملهم. ومن هنا يصبح من الضروري فهم هذه الشخصيات، وتحديد الأسلوب الفاعل للتعامل معها.
ومن خلال مشاركتي وحضوري عديدا من المناسبات الإدارية، كان آخرها ورقة عمل تشرفت بتقديمها في منتدى الإدارة والأعمال السادس في الخبر، قبل أسبوعين تقريباً، توافرت لي الفرصة للتأمل في نماذج من "الشخصيات" الإنسانية التي تستدعي الانتباه، سواء من المشاركين، أو المعلقين أو الحضور. فعلى سبيل المثال، تجد صاحب القيمة المضافة الذي يثري الحوار بتعليقات تصب في تحقيق المنفعة. وهناك ما يمكن تسميته "بالشبكي الاجتماعي" وهو كامل الحضور، لكن في مكان آخر "افتراضي". ومن ناحية أخرى، هنالك من يمكن أن نطلق عليه "مريض إثبات الحضور" الذي يعلق من أجل "التعليق" فقط، ويتكلم عن كل شيء، باستثناء الموضوع المطروح للمناقشة والبحث. وطبعاً هنالك الشخص الصامت الذي يكون حضوره كعدمه، فهو مجرد عدد زائد "لا يهش ولا ينش".
ومن أكثر الشخصيات التي تستحق التوقف عندها والتأمل فيها،هي شخصية "أبو العرّيف"، أو مدعي المعرفة والعلم. صاحب هذه الشخصية يتسم بأنه متغطرس، لا يرى سوى نفسه، مولع بالسيطرة الكلامية، يتفنن في مضايقة الآخرين وإقصائهم، لأنه الأوحد الذي يحتكر المعرفة والفهم.
يرى أبو العريف أنه الشخصية المحورية في الوجود، والآخرون مجرد شخصيات ثانوية. يعتقد أنه يفقه في كل الأمور ويفتي فيها. يتحدث عن التنظير وهو يجهل معنى "نظرية". يميل إلى الازدراء والسخرية، ويحاول إيصال الآخرين إلى المواقف الحرجة. يسعى لتحقيق الإشباع الذاتي بشد انتباه المحيطين بأي شكل. يظن نفسه أنه "بخير"، ولكن الآخرين "ليسوا بخير". كيف لا؟ وهو من يغرد دائما خارج السرب!
في إحدى المناسبات الإدارية، كنت وجهاً لوجه مع "أبو العرّيف". كانت شهوة الكلام لديه طاغية. يكثر من التعليقات والمقاطعات في جميع الجلسات العلمية، في سعي دؤوب لترك انطباع بأهميته لدى الآخرين الذين ينبغي أن ينهلوا من بحر معرفته الغزيرة. لم لا؟ فهو الموسوعي الألمعي الذي يعرف في الإدارة والاقتصاد، والفيزياء والكمياء وعلوم الفلك، بل حتى في كل أنواع الرياضة والفن. ولا يتورع، ادعاء أنه صديق لذلك الوجيه، وأنه كان على العشاء مع تلك الشخصية المهمة التي عرضت عليه منصباً كبيراً، لكنه رفض لأن ذلك المنصب أقل من قدراته ومقامه. في مثل هذه الحالة تجد نفسك مصاباً بالغثيان، ولا تدري هل يعاني هذا الشخص خللا نفسيا أم فشلا اجتماعيا؟! هل هو قليل المقام أم طافش من المدام؟!
على أية حال، فقدرة المشارك على التأثير في الحضور، تعتمد بالدرجة الأولى على المعرفة الحقة، ذات القيمة التي يضيفها تعليقه، والمستمدة من قوة الخبرة التي يتمتع بها. أما مجرد الاستعراض البهلواني و"النطنطة"، فهذا لا يصدر إلا من "الشخصيات الكرتونية" الجوفاء من الداخل. كما أن هنالك فرقا شاسعا بين تلك المواقف، وبين الموقف العلمي، الذي يكون فيه الإنسان مجبراً على الإدلاء برأيه، كمناقشته لرسالة، أو مشاركته في حلقة علمية "كضيف".
كلمة أخيرة للقراء: إذا قابلت مثل هؤلاء، فلا تعرهم اهتماماً. لا تجعلهم يستفزونك. بل لا تشغل نفسك بمحاولة تعرية أفكارهم السطحية. انظر إليهم كمرورك أمام أطفال يلعبون ويلهون. ابتسم، وابتعد عن أذاهم. فمثل هؤلاء تنطبق عليهم مقولة: "أجهل الجاهلين، جاهل يجهل أنه جاهل".