ورب قومٍ ذهبوا إلى قومٍ!
كما هو حال البشر الذين يولدون ومن ثم يدرسون ويتخرجون وينخرطون في وظائفهم وبعد كد السنين وتعبها يتقاعدون وقد يصبحون نعمة أو نقمة.
وبما أنني مجرد "مكرفون متقاعد" فإنني نقمة بعكس بني البشر، ونقمتي هذه ستحل فقط على الشعراء الشعبيين أباد الله سيئهم "ويخلف على أبوه" ويرفع شأن الجيد منهم.
حكايتي بدأت منذ أن كنت "إير بيز" وأتنقل من مذيع إلى مذيعة، حيث كنت في طور النمو، ولا أملك الخبرة التي تميزني عن باقي أقراني من "المايكات"، فكنت أتنقل بصمت، إلا أنني سمعت أحد معدي برامج الشعر الذي تقدمه مذيعة "سكه" وقد بدأت تحاور ضيفها، وإذا بالمعد فجأة يقول: "فديت الابتسامة"، صعقت وانتظرت لدرجة أنني خجلت من أن أوصل هاتين الكلمتين، إلا أنني أوصلتها على مضض بعد تقطيعة إلكترونية بسيطة – نسميها في مجالنا غصة ترددية - وإذا بالسيدة التي ما زالت تتمتع بالتجول في الطابق الثلاثين من عمرها "تسبل" بعينيها اللتين بدورهما أوقعتا الشاعر الضيف في مأزق من أمره، حتى نسي إجابته وراح يمدح شعراء المحاورة.
المحاورة! يا إلهي رحماك منهم، أصدقكم القول إنني لم أذق طعم الإزعاج أكثر مما أذاقوني إياه، فما ذنبي وذنب من يسمعهم "هيييييييييييييي.. خلووووها"! ألا يستطيع أن يرفع يده ذوقاً وأدباً لأولئك الذين يجب أن يحترفوا في فرق لعبة الكرة الطائرة! أو ان يأتي نده ويصرخ "خلووووووووها"! يخلون من؟ طيب يخلونها ليش؟ المربوط أحسن من المفتلت! هذا الأمر سأتجاوزه ولن أسترسل في الحديث عنه نظراً للاضطراب المعوي الذي يداهمني كلما تذكرتهم، واسألوا أي "مكرفون" خدم في الساحة الشعبية أمسية واحده فقط سيعلمكم عن قدر المعاناة، فما بالكم بمن أفنى حياته متنقلاً في أرجاء الساحة!
دعوني أخبركم عن أقبحهم صوتاً، الذي غالبا ما تجده مصراً - بعين قوية - أن يغني "موالا"، وما زلت أتساءل: هل يعلم أي نوع من العذاب أتحمل؟ أتمنى أن يتفهم أحفادي من "المايكات" المتنقلة، أنهم أكبر من أن يُستخدموا في برامج وملحقات الساحة الشعبية، ليس لأن سعرهم أغلى بينما تعاني الساحة الشعبية من الأقساط والشرهات المقطوعة، ولكن لأنهم تقنية حديثة يجب التعامل معهم بحرفية، وهذا ما يفتقده من يدعي أنه يعرف كيفية التعامل مع "المايكات".
نعود مرة أخرى إلى طفولتي التي أثارتها شجوني بالحديث عن الشعراء، وأذكر أنني لم أسمع بنصيحة كبيرنا وحكيمنا ومؤسس لبنات طريقنا الشيخ "المكسر"، عندما قال لي منذ تركيب أول سلك في تكويني: "يا مكمك يا ولدي، ابتعد أكثر ما تستطيع عن الساحة الشعبية فالفارغون فيها كثر والمتميلحون أكثر، ومبدعوها الحقيقيون على أمرهم مغلوبون"، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول أن أميز الفارغ والمتميلح والمبدع، إلا أنني ومع خدمتي الطويلة لم أستطع تمييزهم!