«الفتى العجوز» .. مقاربة بين الأصل الكوري والنسخة الأمريكية

«الفتى العجوز» .. مقاربة بين الأصل الكوري والنسخة الأمريكية
«الفتى العجوز» .. مقاربة بين الأصل الكوري والنسخة الأمريكية

ذلك المشهد السينمائي لرجل يحتبس في حجرة مفردة يحاول الخروج منها دون جدوى يجبرك على الشعور بالاختناق والذهول. بالأخص حين تدرك أنه عاش ذلك الحال لعشرين عاماً دون أن يدرك السبب، أو من قام بسجنه. تلك أبرز ملامح الفيلم الأمريكي "الفتى العجوز" المقتبس من فيلم درامي كوري يحمل العنوان ذاته في عام 2003. تم إخراج الفيلم الأمريكي بعد عشرة أعوام من ظهور النسخة الكورية للملأ، وإن كان مخيباً للآمال، إذ يظهر هشاً متهالكاً يفتقد إلى براعة العمق الإنساني الذي أبهر النقّاد في الفيلم الأصلي لمخرجه الكوري بارك تشان ووك، ما حدا به للحصول على الجائزة الكبرى لمهرجان كان لعام 2004.
تنبثق الفكرة من رجل أضمر في نفسه حقداً ورغبة في الانتقام تمكن من بلورتها لتخطيط محكم وحبس الرجل جو ديسو، لأسباب قد تبدو للآخرين واهية تعود بهم إلى زمن المراهقة حيث يضطرم الانفلات الأخلاقي ومحاكمة الآخرين. يتمكن الرجل المجهول الهوية من اختطاف جو وحبسه لسنين عدة. لا يتمكن من التعرف على أحداث العالم الخارجي إلا من خلال تلفاز يرقب فيه تلفيق تهمة له بقتل زوجته ومن ثم سعيه للخروج من سجنه للبحث عن ابنته وشرح حيثيات موقفه. كل ذلك لا يقوده إلا إلى الاستسلام بعد إطلاق سراح أوه، لعبارة تلخص حالته النفسية المتأزمة "الحياة عبارة عن سجن كبير"، وهو قد اعتاد سجنه الذي أصبج يبدو كأنه منزله بعد مضي 11 عاماً فيه. فبعد الاستيقاظ داخل حقيبة صغير يقوده إلى العالم الخارجي، يظل مقتنعاً بصغر الحياة التي تقلصت لتصبح مصغرة بحجم تلك الحقيبة.
على الرغم من حرص المخرج الأمريكي سبايك على نقل فكرة الفيلم بتفاصيل عديدة متقاربة، كاختيار اسم جو ديسو عوضاً عن أوه ديسو الكوري، بل واختيار ذات الطعام الآسيوي الذي اعتاد المسجون تناوله خلال فترة احتباسه الطويلة، تتجلى تلك الفروقات الرمزية بدلالاتها ذات العمق الفلسفي. أما لمسة المخرج الأمريكي سبايك فتمعن في تشويه النص الأصلي بوضع فروقات بسيطة لا تبرير لها، فجو يحتبس لعشرين عاماً بدلاً عن النسخة الكورية التي اقتصر فيها أوه على الاحتباس لخمسة عشر عاماً. فيما تعمل ميا كإخصائية اجتماعية مواكبة للتغيرات العصرية، وفي الفيلم الكوري تعمل ذات الشخصية طاهية محترفة في مطعم ياباني. ظهرت أوجه شبه غريبة تقارب بين الفيلمين كاعتياد السجين تناول أطعمة آسيوية، والتصاقه بهاتف خلوي يعطيه تعليمات بما عليه فعله. ويبقى ذلك الاختناق ومحاولة التنصل من الاحتباس الانفرادي الحدث الأهم، ومحاولة التعرّف على شخصية سجّانه ومبررات سجنه.
تلك السنوات العشر التي تباعد بين العمل الأخير والعمل الكوري لم تطوّر من تقنيات الفيلم والمؤثرات البصرية المعتمدة. ففيما تركز النسخة الكورية على تعابير الوجه والمونولوج الداخلي والتمزق ألما، تبتعد النسخة الأمريكية عن ذلك لتركز الكاميرا على حركة جو المستمرة سواء داخل سجنه، أو في الخارج أثناء قتاله كل من يقوم بتجريمهم. بل والتركيز على الطقوس الدموية التي يرتكبها للانتقام ممن أساء إليه. العنف في النسخة الكورية يحمل هدفاً، وإن كان محملاً بأحقاد مريض نفسي. فيما يتأرجح فيلم الفتى العجوز الأمريكي ما بين شخص يكاد يفقد عقله أثناء احتباسه، ليستحيل فيما بعد إلى ناقم يتهجم ويسفك الدماء بسادية مفرطة. تظهر شخصيات مزعجة لفترة بسيطة كالممثل الأمريكي صموئيل جونسون، الذي لم يعزز من عمق الفيلم، وإنما عزز من تحويل الفيلم إلى مقتصر على الإثارة النمطية. عزز من ذلك اختيار غير موفق للممثل الأمريكي جوش برولين الذي قام بتأدية الدور المحوري لشخصية جو، ليفتقر إلى الحيوية في دوره، ويظهر كأنه يردد كلمات واهية لدور أرغم على القيام به.
#2#
يظهر إخراج فيلم الطفل العجوز القصور الذريع للبعض من الباحثين عن البريق من مخرجي السينما الأمريكية دون انتقاء لذائقة راقية، فحتى نقل الفكرة جاء بسطحية أكبر، وتركيز أعمق على الإثارة والميزانية الضخمة، كتلك الأفلام الاستهلاكية التي تستهدف استقطاب أكبر عدد من المشاهدين بابتعاد عن العمق الفلسفي والإنساني، فالتسطيح يسهل من جذب عدد أضخم. هناك افتقار إلى تلك اللمسة الوجودية ومناقشة حق الحياة والحرية كفيلم المخرج الكوري ووك. وتلذذ السجان باحتباس فريسته وتمكنه من تشكيل شخصيته كما يهوى في الحين الذي يعتلي فيه برجاً عاجياً يرقب من علوّه وضع المسجون. هو شخص كرّس كل حياته للتحكم في حياة آخر. لخلق الوحش الذي ترعرع على طريقته، كأكاديمي يقوم بدراسة الآخر وإجراء التجارب عليه. يسأله بتهكم إن كان يعلم السبب وراء إطلاق سراحه.
الفيلم "طفل عجوز" يرفل كعنوانه بنظرة تغرق في السوداوية، كعبارة أوه "اضحك وسيضحك العالم معك، ابكِ وستبكي وحدك". حتى الأسلوب الفكاهي الكوري أقرب إلى الغرابة والسوداوية، ويعتمد على تعابير وجه غريبة، وشعر منتفش دلالة على الحالة المستفحلة من الانهيار. فيما يتناثر الغموض كتلك الصناديق المقفلة المحملة بماض يكشف فضائح سابقة، إن تم فتح تلك الصناديق يفضي ذلك إلى عواقب وخيمة.
في الوقت الذي يتعمق الفيلم الكوري بأسئلة عميقة في النصف الثاني من الفيلم، كالبحث عن الحياة مرة أخرى، يظهر ذلك في أول طلب له في مطعم يرتاده ليطلب تناول أي شيء حي بتلذذ عجيب، ينهش لحم حبّار ضخم. في الحين الذي يستحيل الجزء الأخير من الفيلم الأمريكي إلى فيلم إثارة دموي لا يتورع فيه جو عن تشويه ولكم وقتل من حوله عقب احتباسه في سجن انفرادي، تسبب في تصاعد مشاعر الغضب والضغينة والرغبة في الانتقام، وأثار الريبة في كل من حوله. يحاول التخلص من الوحش الداخلي، الذي نما بسبب تلك الظروف بعد أن تم تنفيذ عقاب موجه له لجرم يجده سجانه يستحق العقاب بالطريقة التي يريدها. الوحدة القاسية قادته إلى الهلوسة وتخيل غرائبي لسرب نمل يجتاح جسد المرء، وكأن النمل مجتمع يؤكد للشخص أنه أفضل وضعاً منه في اختلائه المهيب. يقتنع ببؤس بأن ما تسبب في حالته المزرية هو جهله بما سيحدث له. "ربما إن أخبروني بأن احتباسي سيمتد لخمسة عشر عاماً لكان وقع ذلك عليّ أسهل بكثير".

* كاتبة وروائية سعودية

الأكثر قراءة