صيرفة الحيل أم صيرفة التيوس المستعارة أم التيوس المحللة؟ (2-2)

في الجزء الأول من هذا المقال في الأسبوع الماضي، كنا قد انتهينا من التأصيل الشرعي لمسمى ما يطلقون عليه الآن الصيرفة "الإسلامية". وبينا أن الاسم الشرعي لها يدور حول صيرفة الحيل أو صيرفة التيوس المحللة أو المستعارة لورود هذا اللفظ في السنة بإطلاقه على الاحتيال لتحليل المرأة إلى زوجها. وإن إطلاق مسمى الصيرفة الإسلامية على هذه الحيل الساذجة لهو إساءة لديننا وخطر يهدد عقيدتنا خاصة عند غير المسلمين. وفي ذلك أقوال ومقالات وبحوث وكتب من مفكرين وعقلاء يستنكرون سقوط الأمة الإسلامية في هذا المنزلق في استخدام الحيل، ومن آخر ما قيل في ذلك ما نقل عن المحامي البريطاني، الذي اشتغل بقضية صكوك في بريطانيا، قوله إن المسلمين يستطيعون الاحتيال على ربهم ولكن البريطانيون لا يستطيعون الاحتيال على قضاتهم.
هذا من الناحية الفكرية، أما اقتصاديا فقد استغل آخرون على المستويين العالمي والمحلي هذه الحيل الساذجة في استنزاف أموال المسلمين بتمويلهم بأغلى الأسعار والتمول منهم بأرخصها. وما كانت هذه المهزلة لتحدث إلا بسبب هجران المسلمين للكتاب والسنة ولأقوال السلف واتباعهم لآرائهم التي يغلب عليها الهوى تارة وحب التميز عن الغرب وإيجاد هوية "اقتصادية إسلامية" تارة أخرى، ولو كان ذلك على حساب آلاف المليارات من أموال المسلمين، فضلا عن تعطيل اقتصادياتهم والاستخفاف بعقولهم وأحلامهم بصيرفة الحيل الساذجة.
وقد وضحت في مقالات قديمة أن القول بربوية الأوراق النقدية مخالف لنص الكتاب والسنة ومخالف لما هو المشهور في المذاهب الأربعة، وأن بعضا من شيوخنا وعلمائنا، رحمهم الله، الذين رأوا بأن الأوراق النقدية تقاس على الذهب والفضة قد خالفوا المذاهب الأربعة وأخذوا بالاحتياط للدين، حيث إن في ذلك الوقت المتقدم كانت الأوراق النقدية مرتبطة بالذهب وذا قيمة ثابتة تجعل منها مستودعا للثروة، ومن ذلك قول الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، مفتي الديار السعودية في تشخيص هذه الأوراق النقدية "هي نقد نسبي والاحتياط فيها أولى"، بينما رأى الشيخ بن سعدي، رحمه الله، عدم جريان الربا فيها ودافع عن ذلك بالدليل والحجة. وفي فتوى هيئة كبار العلماء نجد أن معظم كبار علمائنا من شيوخ هيئة كبار العلماء وذوي الطول فيهم قد توقفوا عن البت بالقول الفصل في ربوية هذه الأوراق النقدية كالشيخ الإمام عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى سابقا، رحمه الله، ووالد العالمين الجليلين الشيخ صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام، والشيخ الزاهد التقي النقي الخفي الطاهر الدكتور العلامة أحمد بن حميد، حفظهما الله تعالى. وممن توقف عن الحكم في الأوراق النقدية فلم يقل بجريان الربا فيها الشيخ العلامة الأمين بن المختار الشنقيطي صاحب أضواء البيان في تفسير القرآن وصاحب المؤلفات الطوال، عضو هيئة كبار العلماء رحمه الله. ومنهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي، رحمه الله، عضو هيئة كبار العلماء ونائب مفتي الديار السعودية. ومنهم الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، حفظه الله تعالى. فانظر، رحمك الله، إلى مَن توقف ومَن رد القياس ومَن أخذه احتياطا (يزول بزوال المحظور)، فمن القوم إلا هم. ولاحظ أخي القارئ الكريم أن توقفهم في تلك الفترة كان على الرغم من أن الوضع النقدي في ذلك الوقت لم تتضح فيه حقيقة معنى انفكاك الذهب عن الدولار الذي حصل عام 1973, وجعل من الدولار بديلا عن الذهب, والذهب محدود, والدولار غير محدود، ما نفى على العملات صفة استيداع الثروة وما عاد لها قيمة ثابتة، وذلك كأصل في خلقتها لا طارئ عليها, وذلك لانفكاك ارتباطها بالذهب.
ومن الأحياء جمع كثير من الذين ردوا هذا القياس، أي قياس الأوراق النقدية على الذهب والفضة، منهم على سبيل التمثيل لا الحصر، الشيخ حسن أيوب في كتابه "فقه المعاملات" بقوله: والذي أدين الله به بأنه لا يجري فيها (أي هذه الأوراق) لا ربا الفضل ولا ربا النسيئة, ومنهم الشيخ الدكتور محمد الأشقر الذي طالب بالنظر في السماح وجواز تبادل الريال بالدولار أو الريالين بالأجل تمويلا وبيعا وشراء لا قرضا وذلك في عدد من المجمعات الفقهية التي يحاول البعض الاحتجاج بها دون الكتاب والسنة ويدعي الإجماع، ولو اطلع على النقاشات النهائية والبحوث المقدمة لعلم أنه ليس هناك إجماع في ذلك, بل غلبة رأي.
ومن الأسباب التي دعت بعض شيوخنا، رحمهم الله، للقول بربوية هذه الأوراق هو الخوف من منع الناس للزكاة قياسا على الفلوس في بعض المذاهب، وهذا الخوف لم يعد قائما لاستقرار أن الأوراق النقدية مال محترم قابل للنماء. وسأعود للتفصيل في هذا مستقبلا، ومن أراد ذلك حالا فليرجع إلى مقالاتي القديمة.
العقل البشري بطبعه قد يرفض قبول الحق، والدليل من الكتاب والسنة والمنطق، بسبب ما ألفه واعتاد عليه، فتغيير مفهوم قد رُبي عليه الشخص من أصعب الأمور وأشقها، فهي الحجة الدامغة القوية التي أسماها إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالحجة الملعونة، حجة إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، وإنا على آثارهم مقتدون.
ولكن المؤلم والذي يجب ألا يقع فيه بعض مَن ينتسب إلى العلم الشرعي هو الخلط على عامة الناس عن عمد أو عن جهل، وذلك عندما يأتونهم الناس وقد وضعوهم موضع أمانة دينهم ودنياهم فيسألونهم في هذه المسألة فيخلطون عليهم بين القرض والتمويل، هذا إن كان المتصدي لمثل هذه الأمور يدرك الفرق في ذلك، وإن كان قد ظهر لي من اشتغالي في هذه المسألة أن أكثر مَن يتصدى لذلك لا يدرك الفرق بين القرض والتمويل، وهذا دليل على عدم فهم المسألة من أساسها، وقد أوضحت ذلك جليا في مقال قديم بعنوان "الضبابية بين القرض والتمويل أما آن لها أن تنجلي".
فلم ولم ثم لم يُجبر الناس على قول مستحدث لا مستند له إلا آراء بعض المحدثين ويقذف بناء على ذلك عامة المسلمين وأولياء أمورهم بالربا، وتستباح أموالهم ويتهمون بمحاربة الله ورسوله ويضيق عليهم في دينهم ودنياهم؟ هل أُمرنا بعبادة الله في ضوء الكتاب والسنة (قل إني على بينة من ربي) أم على رأي واستحسان فلان وعلان من المحدثين؟
إن من أعظم القذف قذف المسلمين بجريمة الربا، وأن ما يحدث من التسلط على المسلمين بإرغامهم على صيرفة التيوس المحللة والإرهاب الفكري الممارس من قبل بعض المستفيدين من هذه الصيرفة، يجب أن يطرح على الساحة ويناقش تحت الشمس، فالحق نور والنور لا يخشى الضياء وإنما تتوارى الآراء العقيمة خلف كهنوت ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، "إنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما. إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك. وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول. ومن الناس مَن يكون نشأ على مذهب إمام معين أو استفتى فقيها معيناً أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل الناس كلهم على ذلك، وهذا غلط" انتهى كلامه، رحمه الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي