أقول: قال الله والرسول .. يقولون: قالت قرارات المجمع الفقهي
قال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله تعالى ـ وهو أحد المعاصرين الذي قال بعدم جريان أحكام الذهب والفضة على الأوراق النقدية في تعليقه على آية الربا في سورة آل عمران "إن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي في نفسه وفي غيره.. وكذلك إذا نهي عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه".
إن تحريم الربا قد جاء عاما دون تفصيل في القرآن كالصلاة والزكاة وفصلته السنة في قوله ـ عليه السلام ـ المروي في صحيح مسلم "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يدا بيد".
وقد فهمت الأمة الحديث على وجوه عدة تتفق جميعها على اختلافها على أن الربا لا يقع في أوراقنا النقدية المعاصرة. فالظاهرية يقفون عند هذه الأصناف الستة فلا يتعدون بها إلى غيرها, ومن أجل ذلك نص بحث حكم الأوراق النقدية لهيئة كبار العلماء بالنص التالي "فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرهما مما جعل نقدا, وتحريم الربا فيها تعبدي" انتهى. وهو قول طاووس وعثمان البتي وأبو سليمان. وممن أخذ بهذا القول أيضاً الإمام الصنعاني من فقهاء الحديث والإمام ابن عقيل من الحنابلة. قال الإمام الصنعاني "ولكن لما لم يجدوا - أي الجمهور- علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها". وقال ابن عقيل "لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس", وأما الحنابلة والأحناف فقد نص على رأيهم الشيخ صالح بن فوزان عضو هيئة كبار العلماء في بحثه ( الفرق بين البيع والربا) بقوله: فعند هؤلاء "فلا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم ولا في الفلوس من غير ذهب أو فضة لأنها غير موزونة" انتهى. وذلك لأن الحنابلة والأحناف قالوا إن العلة هي الزيادة في الوزن وأما المعدود فلا يجري فيه الربا.
وأما الشافعية والمالكية فقد نص على رأيهم الشيخ عبد الله بن منيع بقوله "وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمينة, وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي, فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين, فالثمينة عندهما طارئة عليهما فلا ربا فيها" انتهى.
إذن فعند الظاهرية والمشهور عن الأئمة الأربعة أنه لا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم. وهو أيضا رأي مجموعة من العلماء السلفيين المعاصرين. وقد توقف من قبل ذلك شيوخ وكبراء علماء هيئة كبار العلماء في المسألة.
أما الفتوى السائدة اليوم, التي يظن كثير من الناس أنه لا مخالف لها رغم كثرتهم، التي اتبعت رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وابن القيم في إطلاق الثمينة كعلة لجريان الربا في الأوراق النقدية بشرط ثبات قيمتها واستيداعها الثروة, فتحتاج إلى إعادة نظر, وذلك لتغير المعطيات التي بنيت عليها الفتوى.
فإلغاء الغطاء الذهبي للعملات الورقية من بعد عام 1971 أدى إلى انتفاء صفة حفظ القيمة عن الأوراق النقدية وأصبح التناقص في قوتها الشرائية أصلا في طبيعتها وليس طارئا عليها، كما نوقش في المجمعات الفقهية من قبل في الليرة اللبنانية ونحوها، مما يخالف شرط شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تبعه من العلماء والعقلاء والاقتصاديين بأن الشيء لا يكون ثمناً إلا بشرط ثباته النسبي في القيمة بحيث يكون مستودعاً للثروة. قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله "ولكن الدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا ترتفع قيمته ولا تنخفض.. وذلك إنما يكون إذا كان ذلك الثمن باقياً على حال واحدة لا تزداد فيه القيمة ولا تنقص". وقال جرينسبان مدير البنك المركزي الأمريكي السابق: "إن في غياب نظام الربط بالذهب لا توجد طريقة لحماية الإدارات من المصادرة من خلال التضخم ولا يوجد هناك مستودع أمين للثروة".
وقد كان استيداع الثروة وقياس القيم الآجلة المستند في كل بحث ونقاش دار حول صحة قياس الأوراق النقدية على الذهب والفضة.
إن قرارات المجمعات الفقهية اتبعت فتوى عام 1965 المنبثقة عن مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة. وهذه الفتوى هي التي أقرت بجريان الربا في النقود الورقية قياسا على النقدين. وقد كان منبعها الخوف من إلحاق النقود الورقية بالفلوس أو عروض التجارة، فتسقط عنها الاعتبارات الشرعية الخاصة بزكاة النقدين في رأي عند بعض العلماء. وهذه الفتوى استندت إلى أن هذه الأوراق مستودع لثروة ومقياس للقيم الآجلة. فكما أننا قبلنا هذه الفتوى آنذاك رغم مخالفتها المذاهب الأربعة ومعظم أهل السلف، لأن الأوراق النقدية كانت مطابقة فيه آنذاك (قبل 1973) خصائص الأثمان من كونها مقياسا للقيم ومستودعا للثروة ولأن الصورة لم تكن واضحة عن حقيقة الأوراق النقدية وما ستؤول إليه بعد 1973، أفلا يجدر بنا أن نعيد النظر فيها بعد اختلاف المعطيات والحيثيات التي بنيت عليها الفتوى عام 1965؟
فبما أن الأوراق النقدية لا يجري فيها ربا البيوع عند المذاهب الأربعة ولا تنطبق عليها شروط مطلق الثمنية بعد عام 1973 من استيداع الثروة وقياس القيم الآجلة وبما أن ذلك أصل فيها وليس طارئا، فإن القول بجريان ربا البيوع في أوراقنا النقدية المعاصرة, وهو قول مستحدث, لا أصل له في أي من أقوال علماء السلف أو الخلف. والنتيجة التي ينبني عليها ما سبق من المعطيات والحيثيات كثيرة من أهمها جواز بيع العملة بالعملة تفاضلا ونسيئة كما نص على ذلك الشيخ الدكتور الأشقر، ما يلغي كثيرا من التعقيدات والحدود الذي وُضعت على المسلمين وضيقت عليهم اقتصاداتهم وألجأتهم إلى الحيل وما ذلك إلا كما قال شيخ الإسلام "لتغليبهم الرأي على النص، ومبالغتهم في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل. وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له، وأدى ما وجب عليه؛ فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبداً؛ فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحنيفية السمحة" انتهى .
ونتيجة لما تقدم فإن الأوراق النقدية والسندات الاستثمارية هي بيع وشراء لأموال ليست بأموال ربوية وتجب فيها الزكاة كما تجب في كل مال قابل للنماء ويجوز فيها الفضل والنسأ كما يجوز في السلع الأخرى، تماما كما يجوز شراء متر القماش بالمترين وإعطاء البيضة بالبيضتين وتبادل طابع البريد بالطابعين كل ذلك إلى أجل وهذا ما عليه الفتوى عند هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمهما الله.
وخلاصة النتائج هي أن تحريم تمويل البنوك وودائعها هو تحريم لما لم يحرمه الله ورسوله ولم يقل به أحد من علماء السلف وكذلك الخلف (إذا اعتبرنا المعطيات التي استند إليها القائلون بصحة قياس الذهب على الأوراق النقدية, وهي استيداع الثروة وقياس القيم الآجلة).
إن الربا هو أعظم الذنوب بعد الشرك بالله, وتصنيف المعاملات بأنها حلال أو حرام وتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله أو تحليله هو أعظم منه حيث إنه شرك في الربوبية، قال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون).