لا كلام من دون أرقام
عندما يكون الحديث عن الأرقام، يحلو لكثير من المُتخصصين أن يبدأوا بالتذكير بأن النظام العشري للأرقام هو نظام العد على أساس عدد أصابع اليدين؛ وبأن أول أداة حاسبة معروفة هي "الأباكوس" التي تشبه أدوات العد والحساب (عدّاد) التي يستخدمها الأطفال في الفترة القريبة الماضية، والتي تتكون من كرات خشبية صغيرة مُلونة تُمرر على أسلاك معدنية يُساعد تحريكها يمينا ويساراً على العد وعلى إجراء عمليتي الجمع والطرح الأساسيتين في علم الحساب.
لغة الأرقام لغة إنسانية استُخدمت عبر التاريخ في شتى بقاع الأرض. وكان للمسلمين فيها دور تذكره وتقدره جميع الحضارات الإنسانية، فقد ظلت كتب الخوارزمي، الذي عاش في عهد الخليفة العباسي المأمون، مرجعاً أساسياً للغة الأرقام في الغرب على مدى قرون. ومن دلائل أثر هذا الدور استخدام كلمة "لوغاريتم من خوارزم" في علوم الرياضيات، واستخدام تعبير "اللغات الخوارزمية" للإشارة إلى بعض لغات برمجة الحاسب الآلي.
نحن هنا لا نريد أن نعود إلى التاريخ إلا لاستلهام التطلع إلى المستقبل، ولغة الأرقام هي اللغة الإنسانية اللازمة للتطوير وبناء مُستقبل أفضل. الأرقام هي لغة العلم والمعرفة العلمية التي تُمثل قاعدة التطوير الذي نسعى إليه. ويقول "اللورد كالفن" أحد أهم علماء القرن التاسع عشر للميلاد "إن أي موضوع لا يُمكن قياسه والتعبير عنه بالأرقام لا يُمكن أن نسميه علماً". وعلى ذلك، فإذا أردنا التوجه نحو مُستقبل أفضل، فإن علينا أن نسير على أساس منهجية علمية تُعبر عن واقعنا بالأرقام لتُبين من خلال هذه الأرقام نقاط ضعفنا ومكامن قوتنا، وتوجه مسيرتنا نحو التغلب على الضعف وتعزيز القوة وبناء المستقبل المنشود وتطويره باستمرار.
الأرقام في حياتنا تبدأ بالفرد وتنتقل إلى الأسرة والمُؤسسة وتصل إلى الوطن وتمتد إلى شتى أنحاء العالم. الأرقام تُحدد تطور الفرد بدءاً من ولادته ثُم تعليمه ودرجاته المدرسية ونقاط الضعف ومكامن القوة فيها، وصولاً إلى منجزاته وما يُحققه من تقدم. والأرقام تصف كُل عناصر أي مؤسسة ومُتطلباتها ومعطياتها عبر الزمن. وتعبر الأرقام عن الدولة في شتى المجالات: السكان والتعليم، المُؤسسات والوظائف، الناتج القومي، ونسب النمو، وغير ذلك. وتُحدد الأرقام مكانة الدولة ومؤسساتها بالمقارنة بباقي دول ومُؤسسات العالم.
يُمكن للأرقام أن تُمثل مسيرة الماضي، وأن تُبين حالة الواقع، لتكون بذلك أداة للتخطيط للمستقبل تنير الطريق نحو مسيرة مُحددة التوجه، لا تعبث بها الأهواء ولا تحيرها كثرة الاتجاهات. فالانطلاق من أرض صلبة نحو آفاق المستقبل، هو انطلاق من "اعقل وتوكل"، وليس من رغبة أو خيال من دون معالم مُحددة.
إن ما سبق يدعونا كمؤسسات، بل وكأفراد أيضاً، إلى اعتماد لغة الأرقام، إلى الإحصاء والقياس والتقييم. فطريق التطوير هو المعرفة المُحددة. قد لا تسرنا معرفة الواقع كثيراً، لكنها مرآة صادقة تدلنا مواطن ضعفنا ومكان قوتنا، وتسهل علينا اختيار طريق التطوير القويم نحو المستقبل. يجب أن نستخدم لغة الأرقام في كل مجال من مجال حياتنا التي نتطلع إلى تطويرها نحو الأفضل.
وعندما ندعو المُؤسسات إلى اعتماد لغة الأرقام، فإننا لا نعني المؤسسات الحكومية فقط، بل جميع المؤسسات في مُختلف القطاعات. فالوطن مكون من الجميع، وتطويره مسؤولية الجميع، وكي تكون صورة الوطن واضحة، وجاهزيته للتطوير في شتى المجالات معروفة، فإن الأرقام ولغة الإحصاء والقياس والتقييم مطلوبة من الجميع. فعلى أساسها نستطيع أن نُخطط وأن نُطور وأن نتطلع إلى المستقبل بثقة أكبر.
ولا شك أن لدينا مؤسسات كثيرة تعتمد لغة الأرقام، لكننا نريد الجميع أن يكون كذلك، وعلى المستويات كافة . بل نريد أيضاً الدقة في الأرقام، ونحتاج كذلك إلى المتابعة، كي تكون صورة الواقع واضحة، ورؤية المستقبل آمنة. وعند عدم القدرة على الحصول على بعض أرقام وإحصائيات بعض المؤسسات فلن يكون بمقدورنا الحصول على الأرقام والمؤشرات الكلية للوطن.