لعبة المال وأزمة المُؤهلين
حَفِلَ الإعلام الدولي، وكذلك الإعلام المحلي، بأخبار لعبة المال التي أدت إلى أزمة عالمية امتدت إلى مُختلف أنحاء العالم، ولا غرابة في هذا الامتداد، فمصدر الأزمة كان الولايات المُتحدة الأمريكية صاحبة أكبر اقتصاد في العالم. وقد قيل كثير في مجال لعبة المال هذه قبل بروز الأزمة، ثُم بعد بروزها.
فعلى سبيل المثال قال "جورج شولتز"، أحد أهم الاقتصاديين الأمريكيين، وكان وزيراً للاقتصاد ثم للخارجية في أمريكا "إن مُشكلة أمريكا كدولة وكأفراد، أنها تُنفق أكثر مما تملك". وقال "زبنجيو برجنسكي"، الأستاذ في جامعة هارفرد، والمستشار السابق لشؤون الأمن القومي لرئيس أمريكي سابق "إن مُشكلة الأمريكي هي أنه مُنهمك في التساهل مع نفسه self-indulgence"، وربما بمعنى أنه "يُدلّع نفسه" بأكثر مما يجب. وقد ساعدته لعبة المال على ذلك بتسهيلات الإقراض التي تُمكنه من الشراء بأكثر مما يستطيع، وتُبرر رفع أسعار المساكن والسلع المُختلفة بأكثر من قيمتها الحقيقية. ولا شك أن التوسع في الشراء رفع أيضاً أسعار أسهم المُؤسسات العقارية، والشركات التي تُنتج هذه السلع، بأكثر مما ينبغي.
وكان هناك، بالإضافة إلى ما سبق، ألعاب مالية مُختلفة أخرى في أسهم الشركات وفي ضمانات الأسهم وغير ذلك، وربما لا تخلوا أسواقنا المالية نحن أيضاً من بعض الألعاب غير الحميدة. إن لعبة المال ليست لعبة إنتاجية حقيقية، فهي لا تُعطي سلعاً ولا توفر خدمات مُفيدة. قد توفر خدمات مُغرية بالثروة أو تنمية المُدخرات، لكنها لا تخلو من مطبات وحفر قد يقع فيها حتى من يدعي الشطارة، وما أكثرهم.
لعبة المال بما أطلقته من فقاعات تضخمت ثُم تلاشت، تتسبب في أزمة بطالة حتى للمُؤهلين. يقول "بول كريجمان" الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل لعام 2008 "إن من المتوقع أن تصل نسبة البطالة في أمريكا إلى (10 في المائة) أو أكثر نتيجة للأزمة"، ويعد أن هذا التقدير معقول بالمقارنة بتقدير اقتصاديين آخرين يرفعون النسبة المتوقعة إلى (25 في المائة). ولا شك أن هذه النسبة مُرتفعة وتثير قلق الأمريكيين.
سيفقد بعض من أفضل مُهندسي السيارات، وأفضل مهندسي الإلكترونيات، وكثير من أصحاب المهن المتميزة الأخرى وظائفهم في المصانع المُختلفة. ولا شك أن كثيراً من المشاركين في لعبة المال وعُملائها ووسطائها سيفقدون عملهم أيضاً. لكن عمل أصحاب المهن المتميزة كان عملاً إيجابياً ومفيداً، بينما عمل الكثيرين من أصحاب لعبة المال كان عملاً سلبياً. فالوقت المبذول في هذا العمل كان ضائعاً على أصحابه، والحصيلة كانت آثاراً سلبية ليس على مجتمع واحد بعينه، بل على العالم بأسره.
النصيحة لأبنائنا ليس فقط البحث عن معارف ومُؤهلات مفيدة، بل البحث عن أعمال مفيدة أيضاً. والأعمال المفيدة هي الأعمال التي تُنتج سلعاً مُفيدة، وتُقدم خدمات مفيدة، وليس خدمات مغرية مليئة بالمطبات والحفر. ولا شك أن المُتخصصين في شؤون المال يستطيعون تقديم خدمات مُفيدة، لكن ذلك مُقترن بسلامة النية من جهة، ورجاحة الحكمة وتجنب تضخيم الفقاعات الوهمية من جهة أخرى.
نحن نريد لأبنائنا في هذا الوطن مهناً إنتاجية تُعطي سلعاً وتُقدم خدمات تحد من الاستيراد وتزيد من التصدير لتسهم في نمو الاقتصاد الوطني وتعزيز التنمية المُستدامة. وجوهر هذا الطموح يكمن في التعليم والتأهيل وفي أخلاقيات العمل، ولنا في ديننا الإسلامي الحنيف ثروة كبيرة في هذا المجال. نريد مُجتمعاً يعرف، وهذا هو دور التعليم التأهيل، ويبدع ويبتكر وهذا هو دور البحث العلمي، ويعمل ويُنتج، وهذا هو دور المُؤسسات. نريد لعملنا أن يكون ذا قيمة وأن ينطلق من القيم. هذا ما يجب أن نسعى إليه وأن نتجنب لعب المال الوهمية وسلبياتها التي لا تُحمد عُقباها.