ما دور الحوار في بناء الإنسان والمجتمعات؟
إن الأمم لم ترتق ولم تتقدم إلاّ عندما أتقنت فن الحوار, فالحوار هو الذي يوفر الفرصة للتبادل والتواصل الفكري الحر والعاقل والمنتج. انظر إلى عمل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يدعو قومه إلى الإسلام, كان يستمع إليهم بإنصات ولا يقاطع المتحدث حتى ينتهي، ونعرف قصة سورة فصلت كيف أن أبا الوليد جاء موفداً من قريش ليفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم على أمور، فاستمع إليه حتى انتهى, بل سأله هل فرغت يا أبا الوليد؟ فلما قال نعم. قال له: استمع إلي وقرأ عليه مقدمة سورة فصلت (ألم ... الآيات.) وعرض الإسلام على قوم جاءوا من يثرب، فلما انتهى كلامه قالوا له: وما لنا إن نحن بايعناك على ذلك. قال: الجنة.
ولو قرأت صفة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ومع أعدائه لرأيت عجباً من فن الحوار الراقي في الاهتمام بمحدثه حتى كان كل من يحدث الرسول عليه الصلاة والسلام يحسب أنه أحب الناس إليه. لقد شعر بهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه من ملاحظته شدة عناية الرسول صلى الله عليه وسلم حتى سأله: (من أحب الناس إليك يا رسول الله، فقال: عائشة. فقال عمرو: ومن الرجال قال :أبوها...).
والحوار الحقيقي يساعد على استخراج الأفكار واجتهاد الجميع في التفكير والإبداع, لقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في مواجهة الأحزاب (جيش يصل إلى عشرة آلاف مقاتل لا قدرة للمدينة على مواجهتم) فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، فقبل مشورته. ليس من الحوار ما وقر في عقولنا "الشيوخ أبخص", ولو كانت مثل هذه الأفكار موجودة في المجتمع الإسلامي المؤسس لما تقدموا خطوة.
انظر إلى الحوارات في بعض المجالس النيابية حول العالم حين يخصص لكل عضو مدة محددة لا يزيد عليها. ما زلت أذكر برنامجاً لأستاذ في جامعة أم القرى يبدأ بالمقدمة فإذ به يأخذ نصف البرنامج لتلك المقدمة ولا يبقى للضيف المسكين إلاّ أقل القليل. وقد شاركت في حلقة تلفزيونية مع أحد الأساتذة من مصر ففي القسم الأول من البرنامج (قبل الفاصل) لم أحصل إلاّ على 10 في المائة من الوقت، فلما انتقلنا إلى النصف الثاني لم أنتظر أن يأتيني الدور وأتحدث بأدب كما هو الأصل والمطلوب, بل كنت أجيب وأداخل قدر الاستطاعة.
ولا بد أن أذكر هنا الدكتور رشدي فكّار ـ رحمه الله ـ هذا العالم الكبير حين تحدث عن الحوار فقال إننا نتحاور بالإلغاء, حيث إن كل واحد منّا يلغي الآخر ولا يستمع إليه ولا ينصت. بل لا يعير أي اهتمام لوجهة النظر الأخرى. وما أعجب الشافعي ـ رحمه الله ـ حين قال: "ما حاورت أحداً إلاّ وددت أن يكون الحق معه". وأحد العلماء يقول: "كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلامك خطأ يحتمل الصواب" "فأعطى فرصه لمحاوره أن يكون معه الصواب.
بالحوار يرتقي التعليم وترتقي الصحة وترتقي الشعوب... إن الأمة التي يغيب فيها الحوار وحرية التعبير لأمة مكتوب عليها الشقاء والتخلف والضياع. وما أعجبنا إذ وصفنا أحوالنا في بعض الأحيان وكأنه وضعنا الحاضر حينما قال أحدهم:
صوموا ولا تتكلموا إن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلاّ النوّم
إن قيل هذا شهدكم مرٌّ فقولوا علقم.
وقال آخر:
في فمي يا عراق ماء كثير
كيف يشكو من في فيه ماء؟
وهو مقتبس من قول الشاعر:
قالت الضفدع قولاً رددته الحكماء:
في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟
*أستاذ الاستشراق في جامعة الملك سعود