صور من تدليس صيرفة الحيل
عندما تنعدم الحُجة تنعقد الألسنة وتضيق الطرق على المخالف ويبحث عن المخرج انتصارا لرأي شيخه أو رأي نفسه، فبدلا من الرجوع إلى الحق والدليل، يلتجئ إلى طرق مختلفة، منها لوي أعناق النصوص ومنها التدليس والخلط على العامة بما يُشكل عليهم ويصعب عليهم فهمه، ومنها الافتراء على دين الله فيدعي عجز الشريعة عن اللحاق بمتغيرات الزمان حتى يأتي هو أو شيخه برأي مستحدث لا أصل له في كتاب ولا سنة، أو حيلة بلهاء يحتال بها على نفسه لا على دين الله متناسيا أن فتح هذا الباب هو هدم وتغييرٌ لدين الله بالكلية.
ومن هؤلاء الذين يخلطون على الناس ويلبسون عليهم من يصرف الناس عن التأمل وإعادة النظر في المسألة بقولهم هذه مسألة قديمة قد قُتلت بحثا! ولا غرو فقد قيل من قبل "هذا أفك قديم".
ومن ذلك الخلط الذي يمارسه عرابو صيرفة الحيل أنهم كثيرا ما يحشرون شيخ الإسلام ابن تيمية في حيلهم التي برع فيها قبلهم أصحاب السبت في صيد الحيتان وفي جمع الشحوم وبيعها. فتجدهم في كتاباتهم وأحاديثهم يستشهدون على حيلة من حيلهم بقول لشيخ الإسلام نقلا عن أحد الأئمة فيتوهم السامع والقارئ أن شيخ الإسلام يقول بهذا القول وشيخ الإسلام برئ منه، وإنما هو ينقل رأي غيره لا رأيه في سياق الرد عليه. ورأي شيخ الإسلام معلوم مشهور لا يخفى على أي مشتغل بالشريعة بأنه ضد الحيل صغيرها ودقيقها وجليلها، فهو إمام مدرسة القصد ورأيه في التورق عبر عنه شيخ الإسلام بقوله "هو أصل الربا" وهذا في التورق الصحيح الذي هو شراء سلعة من بائع سلع لا من بائع نقد كالبنوك ثم بيعها في مكان آخر، فكيف فيما يمارس الآن من بيع العينة الذي سموه تورقا ثنائيا ثم يوهمون الناس بأن شيخ الإسلام يرى جواز ذلك بحشره في النقول عن الفقهاء. ومن مغالطاتهم وتناقضاتهم أنهم استندوا إلى رأي شيخ الإسلام في علة مطلق الثمنية رغم عدم توافر شروطها التي نص عليها شيخ الإسلام واعتمدها كل من بحث في هذه المسألة وهو ثبات القيمة واستيداع الثروة، فأجروا الربا في الأوراق النقدية ثم عادوا وهجروا مدرسة القصد التي بنيت عليها هذه الفتوى واتبعوا الصورة والشكل في إيجاد أدوات (تيوس محللة) لتحليل ما أدانوا الله بحرمته فتناقضوا واختلفوا وهذا دليل على أنه ليس من عند الله، وصدق الله القائل "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".
ومن الخلط أو من الجهل المنتشر بين معظم من يتصدى لمثل هذه الأمور استشهادهم بعموم قول الإمام مالك "لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" (أي نسيئة) فيفهم السامع أو القارئ أن الإمام مالك يرى ربوية الأوراق النقدية وهذا الفهم مخالف للمذهب المالكي والمذاهب الأربعة كلها التي لا ترى جريان الربا في الأوراق النقدية، وكما أنه من المعروف عند صغار طلبة العلم فضلا عن كبارهم أن الكراهية عند الإمام مالك لا تعني التحريم. وهذا من الجهل أو التدليس الذي يقوم به البعض على عامة المسلمين.
ورغم أن ما تقوم به صيرفة الحيل هو منع للزكاة في الحقيقة كما هو حاصل في الصكوك فهم يخوفون الناس ويرهبونهم بذلك في وصفهم الأوراق النقدية بقولهم "أموال تدفع بها الديات وتستباح بها الفروج لا يجري فيها زكاة ولا ربا" وهذا مبني على مفهوم خاطئ قد أشتهر بين الناس ويردد دائماًً من بعض المشتغلين بهذه الأمور، وهو أن الأموال التي لا يجري فيها الربا لا تجب فيها الزكاة. وهذا قول بعمومه غير صحيح بالإجماع. فالإبل والبقر والغنم تدفع بها الديات والمهور وتجب فيها الزكاة ولا يجري فيها الربا.
وأصل هذا القول قديم من بعض العلماء بُني على مقدمات لم تزعم أن الأوراق النقدية ليست مالا، فما يملكه الإنسان من منزل ومركب وملبس ورقيق، كلها أموال ولا يجري فيها الربا. ولكن هي أموال لا تنطبق فيها شروط الزكاة حيث اُعتبرت الأوراق النقدية آنذاك في ذلك الوقت المتقدم (منذ ما يزيد على نصف قرن) سندات دين، والدين ما دام في ذمة المدين لا ينمو، إذن فشرط النماء غير متحقق والشرط يلزم من عدمه العدم. وأما الآن وقد استقرت وتبين أن هذه الأوراق ليست بسندات دين فلا مدخل للقول إن الأوراق النقدية لا زكاة فيها لصحة وصفها بأنها مال وشروط الزكاة منطبقة عليها. فالمال لغة يشمل كل ما يرغب الإنسان في اقتنائه وامتلاكه من الذهب والفضة والأنعام والعقار وجميع الأشياء القابلة للتملك. وأما شرعاً فالمال عند الأحناف كل ما يمكن حيازته والانتفاع به، وأما الشافعية والمالكية والحنابلة فأضافوا المنافع أيضاً إلى الأموال. إذن فالأوراق النقدية مال ويبقى تحقق شروط الزكاة الستة وهي الملك التام، النماء، النصاب، الفضل عن الحاجة، السلامة من الدين، وحولان الحول. وهذه الشروط متحققة في الأوراق النقدية مثلها مثل سائر الأموال الواجبة فيها الزكاة بلا نزاع.
ولي وقفة هنا مع الزكاة واستخدامها للتمييز بين مفهوم القرض والتمويل. فالمقترض لا يزكي القرض الذي اقترضه لعدم تمام الملك والزكاة على المقرض، بينما في التمويل يُزكى المال مرتين من جهة البنك الممول ومن جهة المتمول فيجب الواجب الواحد مرتين في نفس المال!!!؟ وهذا عند التأمل قد يجلي بعض الضبابية التي تلف الخلط بين مفهوم القرض والتمويل في الإسلام وفي النظام البنكي.
قال شيخ الإسلام "ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل ، فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، كما قال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم)، وهذا الذنب ذنب عملي ....وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع ، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل. وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له، وأدى ما وجب عليه؛ فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبداً ؛ فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة. فالسبب الأول: هو الظلم. والسبب الثاني: هو عدم العلم. والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)".