قصة الفلسفة
هاهي أثينا ترسف في أغلال الوثنية. السماء مكفهرة، الجلبة تملأ شوارع المدينة، والجماهير الغاضبة الهادرة تهتف بإعدام سقراط. وفي السجن يفد إليه تلاميذه وعلى رأسهم أفلاطون، لقد تعاطف معه القضاة وأرادوا إطلاق سراحه، بعد أن حكم عليه بشرب السم، عرض عليه أصدقاؤه مهرباً سهلا فقد رشوا الموظفين الذين يقفون بينه وبين الحرية والفرار. لكنه رفض فقد بلغ الـ 70 من عمره (399 ق. م)، وربما اعتقد أن الوقت قد حان ليفارق الحياة، وأنه قد لا يموت أبداً بمثل هذه الطريقة المفيدة لتدعيم مبادئه, وقد قال لأصدقائه: "افرحوا إنكم تواروون في التراب جسدي فقط" ثم التفت إلى السجان وقال: "أنت يا صديقي السجان المجرب في هذه الأمور، هل تدلني كيف أفعل؟ وكيف أتقدم في شرب السم؟ فقال السجان وهو يتألم لحاله ويغالب دموعه "بعد أن تحتسي السم عليك أن تمشي فقط إلى أن تشعر بثقل في قدميك فتستلقي وبهذا يسري السم في جسدك" فيفعل سقراط ليموت بين أصدقائه بهدوء.
ما جرم سقراط؟! وما جنايته التي ارتكبها؟ وهو أبرز تلاميذ فيثاغورس.
لقد كانت جريمته أنه كان عابداً متألهاً مجاهراً بمخالفة قومه في وثنيتهم، بل قابلهم وناظر رؤساءهم في بطلان عبادتهم. ولقد اتهمه ماليطوش بكل صراحة بأنه لم يعد الآلهة المعبودة عند أهالي أثينا، لقد كانت جريمته أنه كان موحداً وهو الذي يقول إن الله إله كل شيء وخالقه ومقدره وكان يقول إن أخص ما يوصف به الرب ـ سبحانه وتعالى ـ كونه حيا قيوما. قال ابن القيم وبالجملة فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل وكذلك تلميذه أفلاطون كان معروفا بالتوحيد منكراً لعبادة الأصنام، لكنه لم يجاهر قومه بهذا كما فعل أستاذه فسكتوا عنه وكانوا يعرفون له فضله وعلمه.
أما أرسطو تلميذ أفلاطون فتنكب طريق أستاذه فقال بقدم العالم مخالفاً أساطين الفلاسفة قبله وعبد الأصنام وهام في وثنية الإغريق وفرقته من الفلاسفة يسمون المشائين وهي فرقة شاذة كما حكاه ابن رشد في مناهج الأدلة. وسـبب ذلك ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم أن أساطين الأوائل كفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام، ويتلقون عن لقمان الحكيم ومن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء ولم يكن عنده من العلم بأثارة الأنبياء ما عند سلفه، وكان عنده قدر يسير من الصابئة الصحيحة، فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية، وصارت قانوناً مشى عليه أتباعه. ذكره ابن تيمية في الرد على المنطقيين أرسطو هذا المسمى المعلم الأول تلقف ابن سينا كتبه وتتلمذ عليها وكان ابن سينا من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث. أبدع في الطبيعيات واضطرب في الإلهيات!
كما تبنى هذه الفلسفة غير ابن سينا الكندي والفارابي وابن رشد وإخوان الصفا هذه الجماعة السرية التي كانت تزعم اختلاط الشريعة بالضلالات ولا سبيل إلى تطهيرها إلا بالفلسفة اليونانية. وتأملوا كيف يعاد التاريخ والأحداث والمقولات في أطروحات الليبرالية وربيبتها المدللة العقلانية! والفكر الإغريقي من أقوى الروافد لليبرالية المعاصرة إذ تعد هذه الأخيرة سليلة ثلاثة أصول الفكر الإغريقي والفكرة الرومانية والديانة المسيحية. أفلا يفقه هذا الليبراليون العرب؟!
ولقد سبق علماء الإسلام علماء أوروبا بقرون في نقدهم المنطق الأرسطي, ولعل حامل الراية في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فلقد ألف كتاب (نقض المنطق)، وكتاب (الرد على المنطقيين) وهو من أعظم الكتب في التراث الفكري الإسلامي بل التراث الإنساني كافة.
وأول قضية يحاول ابن تيمية أن ينفيها في رده على المنطق الأرسطي هي الزعم بأن هذا المنطق لا بد منه لكل باحث وعالم، وابن تيمية لا يكتفي بإصدار الفتاوى بالتحريم كما فعل بعض العلماء, بل يكشف بطريقة منهجية فساد هذا المنطق, ولعل من الأهمية أن نوضح المنطق الأرسطي والمدرسيين (المشائيين) من أتباع أرسطو كانوا ساخطين على التجربة وبعيدين عن مواجهة الطبيعة ومعالجة الواقع بل محاربين لها لأن الطريقة المنطقية - في زعمهم - تكفي في معرفة القواعد التي تخضع لها الأشياء!
ومن الطريف أن أرسطو كان يعتقد أن أسنان الرجل أكثر من أسنان المرأة! و لو أنه كلف زوجته أن تفتح فمها لأدرك خطأ مقولته! لكن ذلك خروج من القياس إلى التجربة وهو ما لا يروقه!
وطالما صرح ابن تيمية بأن المنطق اليوناني (لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد!) ، ولقد لخص ابن تيمية رأيه في المنطق اليوناني بقوله: "فإذا كانت صناعتهم بين معلوم لا يحتاج إلى القياس المنطقي، وبين ما لا يمكنهم أن يستعملوا فيه القياس المنطقي كان عديم الفائدة" .
وهذه ما يقرره الدكتور مصطفى طباطبائي إذ يقول: ".. ابن تيمية عاش قبل فرنسيس بيكون بـ 300 عام، وقبل جون لوك وقبل جورج بركلي بأربعة قرون وقد سبقهم جميعاً في نقد المنطق". وممن نقد المنطق الأرسطي (فرانسيس بيكون ت 1626) و (جون ستيورات مل 72) و (جون لوك).
يقول ابن خلدون: "إن كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق" [المقدمة : ص49].
وهذا الأمر مشاهد وانظر على سبيل المثال دولة مثل الولايات المتحدة التي قامت على البراجماتية، وعلماؤها من أفلس الناس في جانب الفلسفة ومع ذلك تجد معظم المخترعين العلماء لا يعرفون عن المنطق شيئاً ولم يضرهم ذلك ولم يعقهم عن التقدم والصناعة.
إن المنهج التجريبي الذي يرفل الغرب في ثيابه اليوم في العلوم الطبيعية كان من نتاج الفكر الإسلامي, يقول (بريفولت) في كتابه (بناء الإنسانية): "إن روجر بيكون - واضع المنهج التجريبي - درس اللغة العربية والعلم العربي في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه العرب، وليس لروجر بيكون ولا فرنسيس بيكون الذي جاء بعده. الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية".
إن الفلسفة محاولة بشرية لسد الفراغ الروحي والفكري و للإجابة عن الأسئلة الكبرى في الحياة التي تظل حايرة دون قبسٍ من نبوة!
هذه هي الفلسفة وهذه هي قصتها، وليعذرني ويل ديورانت إن استعرت عنوان كتابه القيم (قصة الفلسفة).