أطلقوا سراح صندوق النقد الدولي

لقد عاد صندوق النقد الدولي إلى العمل أخيراً. ففي أثناء سنوات الفقاعة الاقتصادية بدا الأمر وكأن لا أحد عاد بحاجة سواء إلى مشورته أو أمواله. أما الآن فإن المزيد والمزيد من البلدان أصبحت في حاجة إلى دعم ميزان المدفوعات لديها، وهناك اتفاق عام على أن النظام النقدي العالمي يحتاج إلى هيئة خاصة تشرف على استقراره الإجمالي. وصندوق النقد الدولي هو المرشح الوحيد لهذه المهمة، غير أن التجربة تؤكد لنا أن الصندوق لن يتمكن من الاضطلاع بهذا الدور إلا بعد إصلاح حُـكمِه.
إن منح الدعم لميزان المدفوعات يشتمل على مسائل مالية ضمنية مهمة، ومن الطبيعي أن يكون هناك إشراف وثيق من جانب هؤلاء الذين يقدمون رأس المال ـ البلدان الأعضاء في صندوق النقد الدولي.
بيد أن رعاية استقرار النظام المالي العالمي، بما في ذلك تقييم سياسات أسعار الصرف والخلل في ميزان المدفوعات العالمي، تشكل مسؤولية من نوع مختلف. ذلك أن هذه الوظائف التحليلية لا تحتاج إلى رقابة وثيقة. بل إن الأمر على العكس من ذلك، فالاستقلال والخبرة المهنية يشكلان عنصرين على قدر عظيم من الأهمية في هذا السياق. وعلى هذا فإن أحد التغييرات الرئيسة لابد وأن يتلخص في التمييز بين المقاييس المالية التي يعتمد عليها صندوق النقد الدولي وظائفه التحليلية، وبصورة خاصة مراقبة أسعار الصرف والمصادر الأخرى للمجازفة المالية العالمية.
إن المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، والذي يتألف بالكامل من ممثلين عن البلدان الأعضاء، يتولى حالياً إدارة الأعمال اليومية للصندوق. وهذا يعني أن الصندوق لا يمارس وظائفه الإشرافية، بل يخدم في الأساس كمجلس إدارة متوسع يقوم بتفويض المدير الإداري والعاملين في الصندوق بتنفيذ قراراته.
إن طريقة العمل هذه لابد وأن تتغير من أجل منح صندوق النقد الدولي الاستقلال الذي يحتاج إليه حتى يتمكن من الاضطلاع بدور الحكم المحايد القادر على تقييم الخلل في ميزان المدفوعات وغير ذلك من مصادر الخطر التي قد تتعرض لها الأسواق المالية العالمية.
ومن الممكن تحقيق هذه الاستقلالية اللازمة لموظفي صندوق النقد الدولي من خلال النص على إشراف المجلس على الوظائف التحليلية التي يقوم بها الصندوق فقط، وفي المقام الأول من الأهمية، إصلاح عملية تكوين وصنع القرار على النحو التالي:
توسعة المجلس التنفيذي من خلال إضافة عدد من الأعضاء المستقلين (ربما من ثلاثة إلى خمسة، كما هو الحال في القطاع الخاص)، ومن الأهمية بمكان أن يقوم مبدأ التصويت على أساس صوت واحد لكل شخص. وهذا يعني أن أعضاء المجلس المستقلين سيشكلون أقلية بسيطة، ولكنهم بحضورهم وخبراتهم المهنية سيكتسبون ثقلاً إضافياً.
لابد وأن تكون لإدارة الصندوق الحرية في اتخاذ الموقف الذي تراه مناسباً من كل القضايا التي لا تشتمل على استخدام موارد الصندوق، ما لم ينقض هذا الموقف المجلس الموسع للصندوق. وهذا من شأنه أن يمنح الإدارة قدراً واقعياً من الاستقلال، لأن العمل بمبدأ صوت واحد لكل شخص من شأنه أن يمنع البلدان الأعضاء الأضخم حجماً من عرقلة أي قضية لمجرد أنها غير مريحة سياسياً.
أما بالنسبة للقرارات التي ترتبط باستخدام موارد الصندوق (إقراض البلدان الأعضاء أو تحديد حجم الحصص، إلى آخر ذلك)، فإن إجراءات اتخاذ القرار الحالية لا تحتاج إلى تغيير. وهذا يعني أن المجلس التنفيذي القائم سيستمر في اتخاذ جميع القرارات المالية، على أن يعكس التصويت المتوازن المساهمات المالية من جانب البلدان الأعضاء.
ويشكل البنك المركزي الأوروبي قياساً مهماً في هذا السياق، وذلك لأنه يعمل وفقاً لنظامين في التصويت، اعتماداً على القضية المطروحة. يتألف مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي من الأعضاء الستة في المجلس التنفيذي إضافة إلى محافظي رؤساء البنوك المركزية الوطنية الـ 16 التابعة لبلدان منطقة اليورو. ويتولى مجلس الإدارة اتخاذ القرارات المهمة فيما يتصل بالسياسة النقدية على أساس مبدأ صوت واحد لكل شخص.
أثناء التفاوض بشأن بنود معاهدة ماستريخت، اعتبر الألمان هذا البند تنازلاً كبيراً. إلا أنه في الحقيقة بند لا غنى عنه لدعم الاستقلال الحقيقي للبنك المركزي الأوروبي، وحتى يطمئن الجميع إلى أن كل أعضاء مجلس الإدارة، وخاصة رؤساء البنوك المركزية الوطنية، يتخذون قراراتهم على أساس تحقيق مصالح منطقة اليورو بالكامل (وليس مصالح بلدانهم الأصلية).
ولكن فيما يتصل بالأمور المالية (وبصورة خاصة توزيع الأرباح والخسائر) فلابد وأن تكون قواعد التصويت مختلفة: حيث لا يشارك المجلس التنفيذي في التصويت، ويتم ترجيح أصوات رؤساء البنوك المركزية الوطنية في مجلس الإدارة تبعاً لحصصهم في رأس المال.
حين يجتمع زعماء مجموعة العشرين في لندن فلابد وأن ينظروا في منح صندوق النقد الدولي القدر اللازم من الاستقلال حتى يتمكن من العمل كوصي على الاستقرار المالي العالمي. والحقيقة أن وضع خبراء مستقلين في هذا المجلس يشكل خطوة أساسية في هذا الاتجاه.

خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي