عالم مالي جديد شجاع
إن صراعاً ضخماً يعتمل الآن داخل مجموعة العشرين بشأن مستقبل النظام المالي العالمي. ولا شك أن نتائج هذا الصراع ستؤثر في العالم ـ وليس فقط العالم الباطني السري للتمويل الدولي ـ لعقود مقبلة من الزمان.
إن المال يعمل على تشكيل السلطة والنفوذ وصياغة الأفكار. وقد يزعم الساخرون أن الأسس التي يقوم عليها النظام المالي العالمي لن تتغير بأي حال من الأحوال، ولكنهم مخطئون. إذ إننا في جميع الاحتمالات سنشهد تغييرات ضخمة في غضون الأعوام القليلة المقبلة، وربما في هيئة مؤسسة أو معاهدة عالمية للتنظيم المالي الدولي. الحقيقة أنه من المستحيل تقريباً أن ينجح العالم في حل الورطة الحالية دون الاستعانة ببوصلة ما تشير إلى مكمن النظام الجديد.
إن الولايات المتحدة وبريطانيا تريدان بطبيعة الحال نظاماً يؤدي في النهاية إلى توسيع نطاق هيمنتهما. ولقد أعلن وزير خزانة الولايات المتحدة تيموثي غايثنر أخيرا الخطوط العريضة لنظام مالي أكثر ميلاً إلى المحافظة. وحتى من ينتقدون العربدة المالية التي انغمست فيها الولايات المتحدة في الماضي فلابد أن يعترفوا بأن اقتراح غايثنر يشتمل على بعض الأفكار الطيبة.
في المقام الأول، قد تَـعمَد الجهات التنظيمية إلى إجبار الممولين على الاحتفاظ بقدر أعظم من النقد لتغطية رهاناتهم الخاصة، بدلاً من الاعتماد كثيراً على دافعي الضرائب باعتبارهم حاجزاً وقائياً. كما يسعى غايثنر إلى جعل تقييم الصفقات المالية أكثر تبسيطاً وسهولة، حتى يتمكن المستثمرون ومجالس الإدارة والجهات التنظيمية من تقييم المجازفة التي يواجهونها على نحو أفضل.
ولكن في حين أن بقية بلدان العالم متعاطفة مع أفكار غايثنر، إلا أن بلداناً أخرى تود لو ترى المزيد من الإصلاح الجوهري. فقد بدأت روسيا ومعها الصين في التشكيك في الدولار باعتباره العمود الذي يقوم عليه النظام الدولي. ففي خطاب رصين ألقاه رئيس البنك المركزي الصيني تشو شياو تشوان تحدث عن المزايا المترتبة على وجود عملة عالمية خارقة، والتي ربما يستطيع صندوق النقد الدولي أن يصدرها.
وهؤلاء هم النقاد الأكثر هدوءاً. أما الرئيس الحالي لمجلس وزراء الاتحاد الأوروبي، وهو رئيس الوزراء التشيكي ميروسلاف توبولانيك، فقد عبر بصراحة عن الغضب الذي يعتمل في نفوس العديد من الزعماء الأوروبيين حين وصف الأسلوب الأمريكي المسرف في التعامل مع السياسة المالية بأنه "الطريق إلى الجحيم". وربما كان بوسعه أن يقول الشيء نفسه عن وجهات النظر الأوروبية فيما يتصل بالقيادات المالية في الولايات المتحدة.
إن ما نراهن به في إطار المناقشة الدائرة بشأن الإصلاح المالي الدولي ضخم للغاية. والحقيقة أن الدور الذي يلعبه الدولار في مركز النظام المالي العالمي يمنح الولايات المتحدة القدرة على جمع مبالغ ضخمة من رأس المال دون تكدير اقتصادها بلا ضرورة. وجميعنا نتذكر كيف قرر رئيس الولايات المتحدة السابق جورج دبليو بوش تخفيض الضرائب في الوقت نفسه الذي بدأ فيه غزوه للعراق. ولكن رغم ما أحاط من شبهات بتصرفات بوش في كل من السياقين، فقد هبطت أسعار الفائدة على الدين العام للولايات المتحدة في ذلك الوقت.
والأهم من ذلك أن الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة في مركز النظام المالي العالمي يمنح المحاكم والجهات التنظيمية والساسة في الولايات المتحدة قدراً هائلاً من السلطة والنفوذ على الاستثمار العالمي في مختلف أنحاء العالم. ولهذا السبب كان الخلل الوظيفي في النظام المالي الذي تتبناه الولايات المتحدة سبباً في تغذية حالة الركود العميق التي يعيشها العالم الآن.
من ناحية أخرى، ما البدائل المطروحة لرؤية غايثنر؟ وهل يوجد نموذج آخر للنظام المالي العالمي؟
إن التناول الذي طرحته الصين من شأنه أن يفرض قدراً هائلاً من الضرائب المستترة على المدخرين، الذين يحصلون على فوائد ضئيلة للغاية على ودائعهم. ولقد سمح هذا الوضع للبنوك الخاضعة لسيطرة الدولة بتقديم قروض بأسعار فائدة مدعمة للشركات والقطاعات المفضلة.
وفي الهند يُستَخدَم القمع المالي كوسيلة لتعبئة المدخرات الأسيرة للمساعدة على تمويل الديون الحكومية الهائلة بأسعار فائدة أقل كثيراً من الأسعار السائدة في أي سوق حرة.
وفي روسيا سنجد أن القسم الأعظم من المشكلات الحالية التي تواجهها البلاد نابع من نظامها المصرفي المختل. ذلك أن العديد من المقترضين الذين أصبحوا عاجزين عن الحصول على التمويل بشروط معقولة في الداخل، اضطروا إلى اقتراض العملات الصعبة من الخارج، الأمر الذي أدى إلى خلق أعباء مالية هائلة حين انهار الروبل.
وتريد أوروبا أن تحافظ على نموذجها المصرفي الشامل، حيث تقوم البنوك بنطاق عريض من الوظائف يراوح ما بين استقبال الودائع إلى تقديم القروض التجارية الصغيرة إلى مزاولة أنشطة الاستثمار المصرفي على مستوى عال. المقترحات التي طرحتها الولايات المتحدة من ناحية أخرى من شأنها أن تجعل الأعمال المصرفية الشاملة أشد صعوبة. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن هذه المقترحات تهدف إلى إقامة سياج حول المؤسسات المالية التي تفرض "خطراً شاملاً" على النظام المالي. ومثل هذه التغييرات من شأنها أن تفرض ضغوطاً على البنوك الشاملة لحملها على هجر الأنشطة المصرفية الاستثمارية الأعظم خطراً سعياً إلى العمل على نحو أكثر حرية.
لا شك أن المؤسسات الهائلة الحجم في الولايات المتحدة مثل سيتي جروب، وبنك أوف أمريكا، وجيه بي مورجان ستتأثر أيضاً. ولكن النماذج المصرفية الشاملة أقل مركزية بالنسبة للنظام المالي الأمريكي مقارنة بالوضع في أوروبا وأجزاء من آسيا وأمريكا اللاتينية.
وبعيداً عن العواقب الضمنية المترتبة على الأنظمة الوطنية المختلفة، فإن هيئة العمل المصرفي في المستقبل ستشكل عاملاً على قدر عظيم من الأهمية بالنسبة للنظام المالي الأوسع نطاقاً، بما في ذلك رؤوس الأموال، والأسهم الخاصة، وصناديق الوقاء. ويهدف اقتراح غايثنر إلى كبح جماح كل هذه الأشكال بدرجة ما. وقد تكون المخاوف المرتبطة بالأزمة مفهومة، ولكن دون هذه الأساليب الإبداعية الجديدة في التعامل مع التمويل فربما ما كان بوسعنا أن نرى صرحاً مثل وادي السيلكون يظهر إلى الوجود. ولكن أين يقع التوازن بين المجازفة والإبداع؟
رغم أن قسماً كبيراً من مناقشات مجموعة العشرين معني بقضايا، مثل الحوافز المالية العالمية، إلا أن الرهان الأعظم يشتمل على اختيار فلسفة جديدة للنظام المالي الدولي وأجهزته التنظيمية. وإذا عجز زعماؤنا عن البحث عن تناول جديد للأمر، فإن الفرصة قائمة لتحول العولمة المالية سريعاً نحو اتجاه معاكس، الأمر الذي لابد أن يزيد من صعوبة الخروج من المستنقع الحالي.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
www.project-syndicate.org