ما الذي يجري للعالم؟
أفرد أمامك خريطة العالم, فما الذي ستراه فيها وعليها؟ سترى الكثير من الدخان المتصاعد من عدة مناطق, وسترى أيضا اللهب يحرق أجزاء منها, فنحن نعيش في عالم بات أشبه ما يكون بمرجل يغلي أو صفيح ساخن ملتهب, فالحروب والنزاعات والأزمات أصبحت العنوان الرئيس والأول في أي نشرة أخبار. وكل ذلك يحدث ونحن ندلف إلى الألفية الثالثة محملين بخبرات لا حدود لها من مآسي الحروب التي شهدها العالم, وعانتها البشرية طوال القرون المنطوية, خاصة القرن الماضي, الذي شهد حربين عالميتين وعشرات الحروب الإقليمية وظهور السلاح النووي الفتاك. وفي ظل مجتمع دولي تقوم فيه مؤسسات متعددة المهام والمستويات لها هدف واحد وأساسي هو حفظ الأمن والسلم العالميين, ولكن يبدو أننا لم نتعلم بما فيه الكفاية من خبراتنا السابقة, وأن نزعة الغاب ما زالت تسيطر على فكر كل من يمتلك قوة يريد من خلالها الهيمنة والسيطرة.
بعد سقوط المعسكر الشرقي بتفكك الاتحاد السوفياتي السابق وزوال الصراع الدولي بما كان يسمي تصارع القطبين آنذاك, الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي, ظهر الرئيس الأسبق جورج بوش الأب وهو يبشر بنظام عالمي جديد يولد من أنقاض نظام عالمي قديم يرتكز على ما سماه في ذلك الوقت قواعد الشرعية الدولية. وصادف هذا التحول الواسع في تشكيل الخريطة السياسية والعقائدية للعالم بانتهاء الحرب الباردة, حدوث الغزو الأخرق للكويت على يد نظام صدام حسين, وهو الغزو الذي استغلته الولايات المتحدة في ذلك الزمن وحشدت لدحره وتحرير الكويت العالم كله تحت غطاء الأمم المتحدة بتوظيف ميكافيلي لشرعيتها الدولية لتكون تلك الخطوة الأولى لإعلان ميلاد النظام العالمي الجديد كما تصور كثيرون واستبشروا, وبداية لعصر جديد يسود فيه القانون على القوة والشرعية على العنصرية والحق على الباطل, إلا أن الأيام وسياق الأحداث أثبتا أن العالم عاش أضغاث أحلام وتعرض لخداع سياسي لا مثيل له باسم الشرعية الدولية. فالنظام الدولي الجديد الذي بشر به بوش الأب لم يكن إلا نظام القطب الواحد الذي تسيطر عليه شوفنية القوة وشهوة الهيمنة على العالم بعد زوال المنافس الآخر, فحرب تحرير الكويت لم تكن حقيقة بداية نظام عالمي جديد على قاعدة الشرعية الدولية, بقدر ما هي بداية لخلط الأوراق وفرز العالم وتصفية حسابات مع بقايا العالم القديم لفرض رؤية واحدة ومصلحة واحدة وقوة واحدة هي الولايات المتحدة.
ونتيجة لذلك ها هي خريطة العالم السياسية كما هي عليه اليوم تئن من وطأة الأزمات والحروب والنزاعات, ومع مجيء إدارة بوش الابن الحالية بفكرها اليميني المتطرف بقيادة تيار المحافظين الجدد المتصهين وخلو العالم من توازن القوى, يبدو أنها تطبق الرؤية نفسها عبر سياسة "الفوضى الخلاقة", وبالأصح الهدامة, بهدف بث الفوضى وإذكاء الصراعات العرقية والمذهبية التي بدأتها بشن ما سمته الحرب على الإرهاب التي لم يكن لها إطار محدد ولا أهداف واضحة, وبناء عليها غزت واحتلت أولا أفغانستان ثم العراق لتدخل العالم مرحلة صراع عالمي وإقليمي مفتوح لا حدود له, وكانت وما زالت النتيجة هو ما يعايشه العالم اليوم من فقدان الأمن والسلام وتفجر أزماته وصراعاته وحروبه.
ما يجري للعالم اليوم حالة من حياة الغاب بأسلوب الكاوبوي الأمريكي, فمن سوء حظ العالم أن القوة الأبرز بعد انهيار القطبية الدولية كانت الولايات المتحدة, فمنذ أن استقر القرار الدولي بيدها وهو يعاني أوجاع الحروب والصراعات, فالقوة إن لم تكن محاطة بسياج أخلاقي تتحول إلى قوة غاشمة, وهو حال القوة الأمريكية التي امتهنت في ظل إدارة المحافظين الجدد شن الحروب وزعزعة أمن الدول بإذكاء الصراعات الطائفية والعرقية كما فعلت في العراق وباكستان وحبلها على الجرار.
أليست السيدة "كونزا" هي صاحبة القول الشهير ـ ولبنان يتعرض للتدمير الوحشي الإسرائيلي ـ: إن ما يجري هو مخاض لشرق أوسط جديد..؟ دون أن يحرك مشاعرها هول التدمير وبشاعة القتل؟ فموقفها ذاك يصور بدقة متناهية وواضحة ما يجري للعالم.