الصيرفة الإسلامية، اعتبارٌ للقصد أم الصورة
قال الأمام بن سعدي رحمه الله في التعليق على أية الربا في تفسيره " إن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر و النواهي في نفسه و في غيره،و إن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه –أولا- أن يعرف حده ، وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد، واستعان بالله على امتثاله في نفسه و في غيره، بحسب قدرته وإمكانه، وكذلك إذا نهى عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد و استعان بربه في تركه، وان هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الآلهيه و النواهي" انتهى.
إن جريان ربا البيوع في أوراق البنكنوت من الأمور التي كثر فيها القول و البحث والاجتهاد فيما مضى، وأعني بذلك في فترة ما قبل عام 1393هـ-1973 م. والآن قد مر أكثر من 35 سنة منذ ذلك التاريخ، استجدت أمور كثيرة من أهمها انفكاك الدولار(عملة الاحتياط للأوراق النقدية) من الارتباط بالذهب مما أدى إلى زوال صفة استيداع الثروة عن الأوراق النقدية و أصبح ذلك أصل في خلقتها وليس طارئا عليها. وأما ثانيها فهو هجران الاقتصاديين الإسلاميين في العقد الأخير لاعتبار القصد، والذي بُنيت عليه الفتوى سابقا في اعتبار الأوراق النقدية أمولاً ربوية، إلى اعتبار الصورة والشكل في الصيرفة الإسلامية مما يقلب المعادلة من أصلها.
و إن مما لا يعرفه كثيرٌ من طلبة العلم فضلا عن عامة الناس بأن أوراقنا النقدية المعاصرة ليست بأموال ربوية في المشهور من المذاهب الأربعة و الظاهرية و بعض علماء فقه الحديث، وهذا مما قرره علمائنا المعاصرين في بحوثهم.
لكنني أتعجب من ربانية الشيخ الأمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله ووقوفه مخالفا لجمهور معاصريه ورأيه بعدم جريان أحكام النقدين على الأوراق النقدية رغم ارتباطها القوي بالذهب آنذاك. رأي الشيخ بن سعدي رحمه الله هذا، يبدو الآن و بعد مرور أكثر من خمسين عاما أنه هو الصواب تأصيلا من جهة وحقيقية مطبقة من جهة أخرى على واقع الصيرفة الإسلامية الحديثة مع اختلاف في الألفاظ و المسميات.
قال رحمه الله بعد ذكره للقائلين بأن هذه الأوراق أوراقا نقدية لأن المقصود بها أن تكون بدلا من الذهب والفضه:
" ومنهم من أجراها مجرى النقدين وحكم عليها بحكم الذهب و الفضة نظرا للقصد، فأن المقصود بها أن تكون بدلا من الذهب و الفضة،.... وهذا المأخذ الذي أخذ به صاحب هذا القول من أن المقصود من الأوراق هو المقصود بالنقدين صحيح، ولكن هذا القصد لا يكفي في المنع وجريان الربا، بل لا يدفع ذلك أن يكون داخلاً في النصوص الشرعية وقد علم أن الأوراق ليست ذهباً و لا فضة، فكيف تثبت لها أحكامها ؟ فعلم بذلك أنه يتعين أن الصواب هو القول الثالث، وهو أنه لا يحكم لها بأحكام النقدين". ثم قال " وهذه الأوراق (الأنواط) ليست ذهباً ولا فضة، لا شرعاً ولا لغة ولا عرفا، فكيف نلحقها بالذهب والفضة بمجرد أنه يقصد بها، ما يقصد بالذهب والفضة أن تكون قيم العروض وغيرها".ثم قال "تعين القول بأنها بمنزلة العروض، وبمنزلة الفلوس المعدنية، وأنه لا يضر فيها وفي المعاملة بها الزيادة والنقص والقبض في المجلس أو عدمه، مع ما في هذا القول من التوسعة على الخلق، والمشي على أصول الشريعة المبنية على اليسر والسهولة ، ونفى الحرج وتوسيع ما يحتاج إليه الخلق في عاداتهم ومعاملاتهم" انتهى.
و قد أخبر الشيخ بن سعدي رحمه الله بما سيحدث لمن يلتزم بالقول من أن أوراقنا النقدية يشترط فيها ما يشترط في النقدين بقوله: " و فيه أيضا ضيق شديد ينافي ما جاء به الشرع، و يوجب على من اعتقده أمرين: إما أن يضيق على نفسه و على غيره بالمعاملة إن التزمه و عمل به. و إما أن يتجرأ به على الوقوع في الحرام إن اعتقده ولم يعمل به" انتهى.
بهذه النتيجة الحتمية، مضيفا إليها أبواب الحيل التي ولجتها الصيرفة الإسلامية الحديثة من أوسعها، أنهى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بحثه عن الثمن وشروطه ووقوع الربا فيه من عدمه بقوله: "وقد يفهمون من كلامه ( أي الشارع) معنى عاماً يحرمون به، فيفضي ذلك إلى تحريم أشياء لم يحرمها الله ورسوله. وهذا قد دخل فيه على الأمة، يحرمون شيئاً من الأعيان والعقود والأعمال لم يحرمها الشارع. وقد ظن كثير من الناس انه حرمها، ثم إما أن يستحلوها بنوع من الحيل، أو يقولون بألسنتهم هي حرام، وعملهم وعمل الناس بخلافه، أو يلزمون ويُلزمون أحياناً ما فيه ضرر عظيم".