حقيقة "اخرس يا سعودي"
كنت قد عقدت العزم على أن أبتعد عن الكتابة فترة الصيف حتى أتى مقال "اخرس يا سعودي" للأستاذ الفاضل نجيب الزامل فأحيا ذكريات وشجونا وآلاما كنت قد خلفتها ورائي في أمريكا نسيانا أو تناسيا عندما كنت طالبا هناك، فلم أستطع إلا أن أكتب بعض التأملات حول "اخرس يا سعودي".
عندما قدمت إلى الولايات المتحدة عام 1997 من أجل إكمال الدراسات العليا كان المسجد هو أول اكتشافاتي للمدينة قبل الجامعة والمنزل. كان المسجد متواضعا أصله كنيسة اشتراها طلبة سعوديون منذ أمد بعيد فجعلوها مسجدا يديره مجلس إدارة منتخب من المجتمع المسلم لتلك المقاطعة, ولم يكن للمسجد إمام ولا هوية. ونظرا لخلفيتي الشرعية وعدم وجود إمام رسمي، فسرعان ما تشرفت بتولي الإمامة وتدريس العلوم الشرعية فيه ما خلق بيئة مساندة وداعمة لمواقفي وآرائي في ذلك المجتمع الذي يغلب عليه كون أعضائه من حملة الشهادات العليا الذين قدموا فارين من اضطهاد بلادهم لتحتضنهم أمريكا. كان هذا المسجد كغيره من كثير من المساجد هناك, مكتبة المسجد تحتوي على كتب تكفير الدولة السعودية جنبا إلى جنب مع المصاحف والكتب التي تبرعت بها الدولة السعودية للمسجد. كانت خطبة الجمعة والمواعظ تبدأ بحمد الله ثم بشتم الدولة السعودية ثم أمريكا ثم بعد ذلك الدولة الصهيونية وتختم بالدعاء والثناء على إيران والعراق. وبخطاب أهل العقول والنفوس المؤمنة الطاهرة في ذلك المجتمع أُزيلت تلك الكتب التي احتوت على أنواع منوعة من الأكاذيب التي يسخر منها إبليس فضلا عن البلهاء والسذج. ومُنع من الخطابة كل من يتعرض لبلادنا بسوء أو كذب كما طُرد بعض من تولى كبر ذلك منهم.
المسجد هناك، كغيره من كثير المساجد في دول الغرب، أُسس على أيد سعودية وكثير من دعمه المالي (قبل الحادي عشر من سبتمبر) من قبل محسنين سعوديين ومصاحفه من الدولة السعودية وكثير من الأئمة يكونون طلبة سعوديين, ومع ذلك فهذه المساجد تحكي قصة "اخرس يا سعودي" في معظم البلاد الإسلامية, فما مسببات هذا التناقض البين؟ وما حلوله؟
هناك مسببات نفسية وتاريخية تحكي ظلم تلك الشعوب لنا وهناك مسببات أخرى تحكي ظلمنا لتلك الشعوب.
فمن أهم الأسباب النفسية وأعظمها التي ظلمتنا بها الشعوب الإسلامية, والتي هي منشأ وأصل الأسباب الحالية كلها ظلم قابيل لهابيل، ومن أعظم الحلول لذلك وأنجعها عفو يوسف, عليه السلام, عن إخوته "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم".
ومن أهم الأسباب التاريخية التي ظلمتنا بها الشعوب الإسلامية ما ورثته من أجدادها من صورة مشوهة مكذوبة عن الدعوة السلفية. هذه الصورة وإن كان قد اتضح وبان للمسلمين كذبها وافتراءاتها إلا أنها ما زالت تحرك نوازع الكراهية والعداء في نفوس عامة الشعوب الإسلامية ضد السعوديين عند وجود حالين متناقضين.
الحال الأولى هي التشدد والاستعلاء في الخلاف الفقهي من جانب بعض السعوديين واستخفافهم بآراء ومذاهب علماء السنة في الدول الإسلامية الأخرى.
وعلى النقيض من الحالة الأولى تكون الحالة الثانية وهي فجور وفساد قلة قليلة من السعوديين عند سفرهم إلى الخارج وفي بعض الفضائيات المدعومة بأموال سعودية. هذا الفجور والفساد في الأشخاص والفضائيات موجود في الشعوب الإسلامية الأخرى بنسبة أكبر وأعظم مما هو عند السعوديين ولكن اعتبار السعوديين أنفسهم هم حماة الدين, ولا فقه إلا فقهم, أظهر فساد الفئة القليلة منهم وعظم أمرها.
هذه الأسباب لا يوجد حل جذري لها، فالغيرة والحسد فطرة فُطر عليها كثير من بني آدم وإرث ورثوه من قابيل لم يسلم منه حتى إخوة يوسف. وأما التشدد والاستعلاء في الرأي, فثقافة مجتمع يصعب التخلص منها في عمر جيل أو جيلين, وأما فساد وفجور قلة قليلة من السعوديين فهذا ما لم يسلم منه المجتمع المدني في عصر النبوة والخلافة الراشدة, ولهذا خلقت الجنة والنار.
هذه الأسباب يمكن تخفيف آثارها ومذكياتها بإزالة الأسباب الحقيقية التي ظلمنا بها غيرنا من الشعوب الإسلامية. فمن ذلك النظر بجدية إلى أوضاع سفاراتنا في الخارج. فبعض السفارات إن لم يكن كثير منها تعامل طالبي الفيزا بأساليب لا تمثل بلادنا. كما أن أوضاع بعض المنتسبين إليها لا تحكي حقيقة مكارم أخلاق الشعب السعودي.
ومن الأسباب الحقيقية التي أسهمت في الإساءة إلى سمعة السعوديين أوضاع المغتربين من أبناء الشعوب الإسلامية عندنا, ابتداء من سفارتنا في بلادهم إلى استقبالهم من موظف الجوازات إلى معاملة صاحب العمل. وهذه في الواقع ليست خاصية نختص بها, فجميع الشعوب المتخلفة الإسلامية منها وغير الإسلامية تعامل العامل والموظف الأجنبي بفظاظة وقلة احترام وتنتهك كثيرا من حقوقه. فأين رجال الدين وأين خطباء المساجد؟ قل وندر أن نسمع خطبة عصماء أو موعظة في حسن معاملة الأجنبي, خاصة أن من واجب الدولة هنا توجيه الرأي العام و تثقيف موظفيها على وجوب حسن معاملة الأجنبي عن طريق برامج فاعلة ومن ثم سن القوانين الصارمة في معاقبة المسيئين لسمعة بلادنا.
ولا تنتهي قصة حقيقة أسباب "اخرس يا سعودي" دون ذكر السبب الذي يختزل الأسباب كلها. إيران أم الخبائث، بلد غني وعقيدة فاسدة ومكر أشعل الفتنة في كثير من الشعوب الإسلامية نجدها وقد أمسى وأصبح كثير من الشعوب الإسلامية يسبح بحمدها والثناء عليها فلم يضرها الحسد على نفطها وغازها الطبيعي ولم تؤثر فيها عقيدتها الفاسدة ولم يُنقم عليها بسبب إشعالها الفتن بين المسلمين. إيران أدركت واستغلت بساطة تفكير كثير من المسلمين فتلاعبت بعواطفهم بممارساتها الشغب السياسي على حساب شعبها وأبنائها. فهل ينبغي لنا أن ننزلق مزلق إيران لنرضي عوام جهلة العالم الإسلامي؟
قصة "اخرس يا سعودي" لن تنتهي حتى ينتهي الناس عن الإساءة والطعن واللمز في الرسل والرسالات والمصلحين والناجحين. هناك أمور لا تليق بنا قد أساءت إلينا ولا تزال, وهذه هي التي يجب العمل على إزالتها. وهناك أمور تؤذينا لم يسلم منها الرسل وأصحاب رسول الله, فكيف نرجو ونأمل السلامة منها؟
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن جهله, وخطاب من لا يفهم
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر و يؤلم