المزايدة على الوطن
على أرض الوطن الواحد قد يحدث ما يمكن حدوثه بين أفراد العائلة الواحدة. فقد يقع الخلاف والاختلاف الذي يفسد للود ألف قضية وقضية وليس قضية واحدة فقط. وقد تصل المشاحنة والبغضاء بين أفراد الوطن الناتجة عن ظلم بعضه بعضا إلى حد هجران الوطن والرحيل عنه سياحة في أرض الله الواسعة، فظلم أولي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند. وبما أن ذلك من طبيعة العنصر البشري مصداقا لقوله تعالى "ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم", فإن كل ما مضى مقبول طالما لم يُستدع الغريب أو العدو فيُستنصر به لكسب الخلاف, فذلك والله الذي ترفضه النفس الأبية الشريفة ذات الخلق السوي ولا يفعله إلا من سفُل وانحطت به هممه, فأفعال من تلد الكرام كريمة وفعال من تلد الأعاجم أعجم.
قد يستنصر سفيه أو خبيث بالغريب أو بالعدو على الوطن مدعيا أنه محب يصلح ما قد فسد وما درى المسكين أنه لعبة أو دمية يستخدمه العدو لتحقيق مآرب وأجندة خاصة به، وجائزة دعوى المحبة والهوى وإن كان لا يخفى كلام المنافق.
وابتلينا في أيامنا هذه بعدد لا بأس به من هذه الشاكلة, قوم من بني جلدتنا امتطاهم غرباء لهم أجندة أملاها عليهم أسيادهم من الغرب والشرق يريدون فرض هيمنتهم علينا من خلال فرض ما سفل وانحط من ثقافتهم دون ما ارتقى وعلا منها.
ومما يؤلم النفس ويحزن القلب أن هؤلاء الأغبياء الذين امتطاهم الغرباء قد أقام عودهم وأقوى شوكتهم هذا الوطن فما كان منهم إلا أن طبلوا وزمروا لكلمة قيلت هنا أو هناك قد حُرفت عن موضعها تشفيا وغيظا ثم ما كان منهم إلا أن أجمعوا أمرهم وشركاءهم فألبوا الأعداء وصوروا لهم الوطن أضحوكة وأعجوبة من أعاجيب الزمان ظانين أنهم بعملهم هذا يسلون أنفسهم من الانتساب إليه جاهلين أن الوطن هو عائلة الإنسان الكبرى لا يستطيع فكاكا منها حتى ولو قضى حياته هربا و تبرأً منه.
ومما يمرض البدن ويقزز الفؤاد ظن هؤلاء بأنفسهم أنهم هم المثقفون والمفكرون الذين سيخرجون البلاد من الجهل إلى العلم ومن الظلام إلى النور وما هم إلا أذناب غانيات بلا أدب أُتي بهم لامتطائهم دون رسن أو خطام. وما أصدق المتنبي حين وصف أمثال هؤلاء بقوله:
فقر الجهول بلا عقل إلى أدب... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
إن الوطن غني عن أمثال هؤلاء الذين يلجأون إلى تأليب الغرب والشرق عليه من أجل خلافات ثقافية أو فكرية أو منهجية أو عقائدية. الخلافات الوطنية يجب أن تبقى وطنية تماما كالخلافات العائلية يجب أن تبقى عائلية.
ألا يعتبر هؤلاء الحمقى الذين جعلوا من أنفسهم مطية للغرباء أن هؤلاء الغرباء قد أفسدوا بلادهم بأيديهم فأصبحت دارا للنزاعات والحروب؟ هلا يشتغل هؤلاء الغرباء الذين تسلطوا علينا من خلال سفهائنا فيصلحون بلادهم وديارهم ويتركون عنهم بلادنا فنحن أعرف بها ولسنا في حاجة إلى وصاية من أحد.
هل يُتوقع من هؤلاء الذين ألبوا الغرب والشرق وتشفوا وأشفوا صدور الحاقدين على بلادنا إحسانا وتوفيقا؟
اختلف رجل من جهينة يقال له الأخنس بن كعب مع قومه فخرج مغاضبا لهم فلقي الحصين بن عمرو فترافقا على أن يأخذا ما يمكن أن يأخذاه من قومهما، فلم يلبث الأخنس إلا أن قتل الحصين ثم رجع واصطلح مع قومه منشدا:
جهينة معشري وهم ملوك .. إذا طلبوا المعالي لم يهونوا