عن الصحافة الصفراء أحدثكم!
يخطئ من يظن أن اسم الصحافة الصفراء يُطلق على كل صحافة تتخذ من الكذب والفبركة منهجاً لأطروحاتها أو أنه يصح أن يُطلق على تلك الصحافة التي تعتمد على الإثارة غير الأخلاقية عن طريق نشر المواضيع والصور المخالفة لقيم المجتمع الذي تصدر فيه, فمما يجهله الكثير من الناس أن لمصطلح "الصحافة الصفراء" تاريخ وحكايات, وأنها رغم كل الصفات السلبية التي تلصق بها تظل الصحافة الأكثر شعبية بين القراء والأكثر تناولاً لقضايا الرأي العام بجرأة تصل بها في أحيان كثيرة إلى المحاكم, لكن وصولها إلى المحاكم لايعني إدانتها فكثيراً ما تخرج منها منتصرة على خصومها.
إن منشأ اسم "الصحافة الصفراء" في الأوساط الإعلامية العالمية يعود إلى صحافة الكاريكتير التي ساهم في انتشارها الرسام الشهير "ريتشارد بلاتون" فهو الذي ابتدع أول شخصية كاركتيرية جماهيرية في الصحافة الأمريكية باسم "الولد الأصفر" الذي كان يناقش القضايا السياسية بطريقة ساخرة وموجعة للسياسيين وبسببه أطلق لقب الصحافة الصفراء على هذا النوع من الصحافة, وهناك مصادر تشير إلى أن تعبير الصحافة الصفراء يعود إلى المسلك الذي انتهجه الصحافي الأمريكي "جوزيف بولستين" صاحب أهم جائزة أمريكية في المجال الصحافي, فقد ابتدع هذا الصحافي طريقة جديدة في الصحافة تعتمد على الخبر القصير والفكرة البراقة, والبحث عن الجانب الآخر غير المعروف من الحقيقة, وكان ذلك عام 1883م بعد شرائه لصحيفة "نيويورك وولد" كما أشار التقرير العربي الصادر عن مؤسسة الأهرام عام 1998م.
ولابد من الإشارة إلى أن من أهم الأسباب التي أسهمت في نبذ الصحافة الصفراء وإلحاق الصفات المعيبة بها رغم شعبيتها الكبيرة هو كون خصومها غالباً من السياسيين والشخصيات المهمة والنافذة في المجتمع الأمريكي, ولاشك في أن هذه الشخصيات تتمتع بنفوذ كبير في وسائل الإعلام ذات المنهج التقليدي مما جعل هذه الأخيرة تشن حملات متوالية على كل صحيفة تنتهج هذا الأسلوب متهمتها بالكذب والتلفيق وتعمد إثارة الرأي العام بقضايا غير حقيقية!
ولعل من أغرب المسالك التي أسهمت في زيادة أعداء الصحافة الصفراء من السياسيين والمتنفذين في كل المجتمعات ذلك المسلك الذي يجعلها تقف في صف الناس دائماً, فصديق هؤلاء الناس بالأمس قد يكون عدوهم في الغد وهو أمر يجبر هذه الصحافة على تغيير مواقفها تجاه الأشخاص بحسب الأحداث, أي أن لا أصحاب لها, وهو ما تحدث عنه إمبراطور الصحافة الصفراء في أمريكا "وليم هيرست" الذي أصدر 42 صحيفة في 13 مدينة أمريكية حتى وصل عدد قراء صحفه إلى 20 مليون قارئ!
فحسب ما نقله عنه محسن محمد مؤلف كتاب "حكايات صحفية" يقول "وليم هيرست" عن نفسه:
"قوطعت لأني صديق لليهود, ثم قوطعت لأنني لست صديقاً لهم.. واتهمت بأنني صديق لهتلر, ثم طرد هتلر جميع مراسليّ من بلاده لأنني عدو له، ولم يحبني الجمهوريون لأنني لم أؤيد الرئيس هريت هوفر كما كرهني الديموقراطيون لأني لم أؤيد روزفلت, والآن قاطعني الاشتراكيون والشيوعيون على السواء!".
ويشير "سيد محمود" مؤلف كتاب "الصحافة المشبوهة" إلى أن "وليم هيرست" اشترى صحيفة "جورنال" عندما كانت توزع 30 ألف نسخة وفي أشهر قليلة وصل توزيعها إلى 400 ألف نسخة فقد استطاع هذا الرجل جلب القراء السلبيين الذين لا يحرصون على قراءة الصحف بشكل عام إلى أطروحاته خصوصاً بعد موقفه المتشدد والمعارض لفكرة دخول أمريكا الحرب بجانب إنجلترا, مما جعل السلطات تعطل وكالة الأنباء التي يمتلكها, وتم طرد جميع مراسليه من فرنسا, وكان من يحمل إحدى صحفه في كندا يلقى به في السجن لمدة 5 أعوام ويدفع غرامة مالية بقيمة 5 الآف دولار !
ولأن هذه هي الصحافة الصفراء, فليس من اللائق أبداً أن نمنح هذا الاسم للصحافة التي تنتهج الكذب والتلفيق والفضائح والتطبيل في عالمنا العربي, لأن هذه الأخيرة وبكل بساطة ليست صحافة من الأساس!