اقتصاد المعرفة ودور التعليم العالي
الحقيقة أنه كثر في السنوات القليلة الماضية الحديث عن مجتمعات المعرفة واقتصادياتها والاقتصاد الرقمي وغيرها من المصطلحات الحديثة التي تدور حول نفس الموضوع، ولكن في الغالب من دون تبسيط لها وإيضاح لمفاهيمها لعموم الناس، ومن دون تحديد أدوار للجهات ذات العلاقة بالأمر والتعرف على التطور فيه. تحدثنا في مقال سابق عن "مفهوم مُجتمع المعرفة"، وبيّنا أهمية تكامل النشاطات المعرفية الثلاثة: توليد المعرفة، ونشرها، وتوظيفها والاستفادة من معطياتها من أجل تحقيق التنمية والتطوير. وناقشنا دور التعليم العالي في هذه النشاطات وفي العمل على تفعيلها. ونُركز في هذا المقال على موضوع اقتصاد المعرفة كبعد أساسي من أبعاد مُجتمع المعرفة، كما نهتم بدور التعليم العالي في التأسيس لهذا الاقتصاد وتحفيزه.
"الاقتصاد المعرفي" هو مبدئياً الاقتصاد الذي يحقق منفعة من توظيف المعرفة واستغلال معطياتها في تقديم مُنتجات أو خدمات متميزة، جديدة أو مُتجددة، يُمكن تسويقها وتحقيق الأرباح منها وتوليد الثروة من خلال ذلك. ومن هذا المُنطلق فإن الاقتصاد المعرفي يقوم بتحويل المعرفة إلى ثروة. وفي العمل على تحقيق ذلك، فإن الاقتصاد المعرفي يوفر وظائف ليس للمؤهلين معرفياً فقط، بل للمبدعين والمبتكرين أيضاً، ولأصحاب المهارات الداعمة لأعمالهم. أي أن اقتصاد المعرفة لا يولد الثروة فقط، بل يُقدم فرص عمل جديدة أيضاً.
وفي إطار الاقتصاد المعرفي، يبرز تعبير "الاقتصاد الرقمي". وبالطبع فإن وصف الاقتصاد بالرقمي، يعني أن هذا الاقتصاد يعتمد على التقنية الرقمية، أي على تقنيات المعلومات والاتصالات. فهذه التقنيات باتت تُستخدم على نطاق واسع في شتى مجالات الحياة، بما في ذلك إدارة تصنيع المُنتجات وتقديم الخدمات المُختلفة، والإعلان عن فوائدها وإدارة تسويقها. ويُؤدي الاستخدام الفعّال لهذه التقنيات إلى رفع كفاءة الأعمال المُختلفة، بما يُؤدي إلى تحسين المردود الاقتصادي للمنتجات والخدمات المعطاة. ويُضاف إلى ذلك فإن إنتاج تقنيات المعلومات والاتصالات بمواصفات متميزة وتكاليف معقولة يُعطي فوائد اقتصادية أخرى، نظراً للسوق العالمي الواسع الذي تتمتع به هذه التقنيات.
على أساس ما سبق نجد أن الاقتصاد الرقمي يُمثل جانباً رئيساً من جوانب الاقتصاد المعرفي، لكنه لا يُغطي جوانبه كافة، فالاقتصاد المعرفي أكثر اتساعاً ويتضمن كافة المعارف التي يُمكن أن تُسهم في العطاء الاقتصادي، وليس فقط استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات وإنتاجها.
ويُركز بعض الاقتصاديين على أن الاقتصاد المعرفي يشمل بصورة رئيسة الموضوعات المعرفية المُتقدمة التي تُقدم مُنتجات وخدمات، يُؤدي تجدد المعرفة في مجالاتها إلى عطاء اقتصادي كبير. وبين أمثلة ذلك، موضوعات تقنيات "النانو" التي تُعطي مواد جديدة غير مسبوقة، يُمكن أن تحقق تفوقاً كبيراً في مجالات عديدة. وبين أمثلة ذلك أيضاً تقنيات المعلومات والاتصالات ذاتها التي نحتاج إلى تحديثها باستمرار، بسبب تطور مواصفاتها وتحسنها، نتيجة لتجدد المعرفة بشأنها. ثم بينها أيضاً الأدوية والخدمات الطبية التي تحفل بالاكتشافات التي تهتم بصحة الإنسان. وهناك، في هذا الإطار أمثلة أخرى كثيرة.
على أساس ما سبق نجد أن أساس العطاء الذي يُقدمه اقتصاد المعرفة، سواء من التقنيات الرقمية، أو من التقنيات المُتقدمة الأخرى، أو حتى من التقنيات والثروات الكلاسيكية، هو عطاء يستند إلى التطور المعرفي، وهو في يد من يستطيع تحقيق السبق في هذا التطور في الموضوعات المُختلفة. وهنا يبرز التنافس المعرفي الذي نشهده في هذا العصر. ولا شك أن لمؤسسات التعليم العالي، كمؤسسات معرفية دورا أساسيا ومهما في حلبة هذا التنافس ينبغي العمل على دعمه وتفعيله.
ولعلنا نستنتج مما سبق، أن على مؤسسات التعليم العالي، أن تُحدد أولوياتها المعرفية، وأن تسعى إلى التفوق والقدرة على المنافسة المعرفية في هذه الأولويات. وعليها كذلك أن تهتم بالشراكة مع المؤسسات التي يُمكن أن توظف معارفها ليس محلياً فقط، بل دولياً أيضاً. صحيح أن الاهتمام بالمستوى المحلي، يُمكن أن يحد من الاستيراد ويُولد الثروة، ويُوظف المهارات المعرفية؛ لكن الصحيح أيضاً أن الاهتمام بالمستوى الدولي، يُمكّن من التصدير، ومن توليد ثروة أكبر، وتوظيف مهارات معرفية أكثر. وهذا ما يتطلع الاقتصاد المعرفي إليه.