حرب القوقاز: باردة أم ساخنة؟

تعرف "الحرب الباردة" على أنها؛ صراع Conflict سياسي أيدولوجي يحدث بين دولتين أو مجموعتين من الدول دون أن تلجأ أطرافه الرئيسية للاستخدام الفعلي للسلاح. وعادة ما تستخدم في ذلك الصراع جميع الإمكانيات المتاحة لتلك الدول، بما في ذلك الإمكانيات العسكرية المتعلقة بالجوانب الردعية (وليس الاستخدام الفعلي لها بالطبع). بهذا فهي حرب إعلامية، نفسية، اقتصادية، استخباراتية، دبلوماسية، ...إلخ. أو بعبارة أخرى؛ هي الحرب الفعلية بكامل أبعادها و ترتباتها ولكن دون الاستخدام الفعلي للأداة العسكرية، وأنه متى ما استخدم فيها السلاح تصبح بالتالي "حرباً ساخنة".
على الرغم من أن بوادرها بدأت مع قيام الثورة البلشفية عام 1917، إلا أن ظاهرة الحرب الباردة لم تتبلور بشكلها المتعارف علية إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. بل أن بعض دارسي العلاقات الدولية يرجعون بروزها تحديداً إلي حصار برلين الذي دام بين صيف عام 1948 وصيف عام 1949. وقد لعب الاتحاد السوفيتي USSR والولايات المتحدة الأمريكية USA الدور البارز في قيام وتطور تلك الظاهرة؛ حيث قاد كل منهم معسكره أو تكتله السياسي في مواجهة الطرف الأخر.
لقد ترتب على بروز وتطور الحرب الباردة، عدد من السمات والعناصر الأساسية المصاحبة لمفهومها. وهي تلك السمات التي استمرت حتى في المرحلة التي عرفت لاحقاً بمرحلة الوفاق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وهي نفس السمات التي لم تزل إلا بعد ما انتهت الحرب الباردة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وبروز النظام العالمي الجديد –الأحادي القطبية- في مطلع تسعينيات القرن العشرين.
لو أسقطنا تلك العناصر والسمات -التي صاحبت ظاهرة الحرب الباردة والتي سوف نأتي على ذكرها- على الحرب الأخيرة التي حدثت خلال الشهر الماضي بين كل من روسيا وجورجيا في منطقة القوقاز؛ لخرجنا باستنتاجات تحليل تدل على أي شي آخر عدا كون هذه الحرب -وتطوراتها اللاحقة- تشكل عودة إلى ظاهرة الحرب الباردة من جديد.
لقد اتسمت الحرب الباردة بسمة لم تتجل بوادرها في حرب القوقاز الأخيرة. وهي تلك السمة المتمثلة في كون الحرب الباردة تشكل في الأساس صراعاً أيدولوجياً بين اللبرالية الرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية. فلو سألنا عن الدوافع الأيدولوجية للحرب الأخيرة لاستصعب علينا في الأصل إيجادها، ومن ثم استحالة تطبيق هذا البعد على مضمون وتوجهات هذه الحرب.
بجانب هذا؛ اتسمت الحرب الباردة بوجود سياسة توسعية لدى أطراف النزاع؛ ولاسيما التوسع في نشر و تصدير العقائد السياسية Ideologies. حيث كانت الولايات المتحدة تدفع وتشجع على توسع وتبني الرأسمالية في جميع أصقاع العالم، وكان الاتحاد السوفيتي بدوره يصدر الثورة الاشتراكية في الاتجاه المعاكس.
كذلك؛ اتسمت الحرب الباردة بوجود تقاسم لمناطق النفوذ بين قطبي الكتلتين؛ وبالتالي بروز كتلتين أو معسكرين متنافرين. بل كان هناك تقاسم للنفوذ حتى في أقاليم بعض دول العالم؛ والذي نتج عنه في أغلب الأحيان تقسيم لتلك الدول. والأمثلة هنا عديدة؛ مثل وضع ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، اليمن الشمالي والجنوبي، الكوريتين، ..إلخ. عدا لو حاول البعض -عبثا- في إقحام فصل إقليمي أبخازيا و أوسيتيا الجنوبية من الأراضي الجورجية؛ فإنه من الواضح أننا لا نتكلم هنا عن تقسيم (مماثل لسابقة) للنفوذ بين معسكرين مضادين في الحالة الأخيرة. يبقى الشأن هنا متعلق فيما لو كان توسع حلف الناتو NATO قرب الأراضي الروسية يشكل فعلياً تبلور معسكر مضاد لمعسكر (روسي) آخر، أو كونه يتعلق بمس المجال الحيوي لروسيا؛ وهذا موضوع آخر. نحن هنا لا نتكلم عن المجال الحيوي أكثر من حديثنا عن تقاسم مناطق النفوذ بين تكتلين عملاقين. فالدفاع عن استهداف المجال الحيوي وارد في أغلب الحالات التي تحدث لمعظم دول العالم، سواء كان هذا الدفاع متعلقا بتكتلات أم لم يكن، سواء كان متعلقا بدول عظمى أم لم يكن؛ حتى لو أتى ذلك الدفاع متواضعاً في الشكل والمضمون.
اتسمت كذلك الحرب الباردة بشيء آخر مختلف، ألا وهو بروز استراتيجيات التسلح لدى طرفي النزاع. حيث كان هناك سباقاً محموماً بينهما في تطوير وتعبئة Mobilize برامج أسلحة متقدمة؛ ابتدأً من تطوير التقنيات الذرية-النووية ومروراً بإنتاج وتنصيب الصواريخ متوسطة وطويلة المدى و انتهى بما عرف لاحقاً ببرامج حرب النجوم. وهي تلك الاستراتيجيات والبرامج الندية التي جعلت أمر التعاون والتعايش السلمي بين أطراف النزاع أمرا غير ممكن، والتي جعلت كذلك إمكانية اندلاع حرب ساخنة بينهم أمرا غير مرغوب فيه.
بجانب تحليل ومقارنة طبيعة الحرب الأخيرة بالحرب الباردة؛ فإن هناك شواهد أخرى تبين وتؤيد احتمالية عدم العودة إلي الحرب الباردة من جديد. فلقد حدثت عدة أحداث شبيهة أو قريبة من وضع الحرب الأخيرة دون أن تعود الأمور إلى سابق عهدها إبان تلك الحقبة. فعلى سبيل المثال، وفي الجهة المقابلة، فإن الحرب التي شنتها قوات الناتو على صربيا (بعد الاعتراف بكوسوفو) عام 1999 قد شكلت حالة مشابهة لحالة حرب القوقاز. لقد قال الكثير بعودة الحرب الباردة حين أذن؛ لكن وعلى الرغم من تأزم العلاقات الشرقية-الغربية ولاسيما عندما قصفت قوات الناتو مقر السفارة الصينية في بالجراد، إلا أن الأحداث اللاحقة لم تدل على أية شيء من ذلك القبيل.
يضاف إلى كل هذا، أن طبيعة النظام الدولي اليوم تختلف بشكل كبير عن سابق عهدها، حيث إنه يمر بظروف وظواهر مختلفة عن تلك التي مر بها إبان المراحل السابقة. فما كان يصلح من معطيات التحليل في المرحلة التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أوائل تسعينات القرن الماضي، وهي الحقبة التي اتصفت بنظام القطبية الثنائية؛ قد لا يصلح لتحليل النظام الدولي في الفترة الحالية. نفس الكلام يقال عن المرحلة السابقة لها والتي امتدت من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى بداية الحرب العالمية الثانية، والتي ساد فيها نظام تعدد الأقطاب.
ما قد نكون بصدده عندما نتحدث عن روسيا في سياق تطورات مرحلة النظام الدولي الحالي؛ هو ذلك التغير الذي مر فيه الاتحاد الروسي خلال الـ 15 سنة الماضية. لقد تغير حال الدولة الروسية عن ما كان عليه الحال عندما بدأ الاتحاد السوفيتي بالتفكك. فلقد كانت موسكو حينذاك مكبلة بالعديد من المشاكل الاقتصادية. ولكن اليوم وبفضل تطورات عديدة، والتي من ضمنها ارتفاع دخلها من عائدات النفط والغاز، أصبح الوضع الاقتصادي أفضل بكثير. إن تعافي الاقتصاد الروسي بجانب ترسانتها العسكرية الغنية يجعلها اليوم تكون بمثابة "قوة نووية وبترولية كبرى". وهذا ما قد يساعدها على لعب دور أكبر، ولكنه قد لا يعني بالضرورة عودة نفس القوة التي كانت قبل ذلك. وهذا قد يجعلنا نعايش تطورات جديدة تقل حدتها عن تطورات حقبة الحرب الباردة وتزيد - في الوقت نفسه - عن حالها قبل عقد ونيف. وهذا بعينه ما جعل هناك مساحة للتحركات الروسية الأخيرة في منطقة القوقاز، وهي نفس المساحة التي جعلتها تلعب دور أكبر فيما يتعلق بمجالها الحيوي.
بهذا فإنه يستصعب أن تعد حرب القوقاز (وتطوراتها) بمثابة عودة إلى الحرب الباردة من جديد، ولكن يمكن أن تعتبر الحرب التي دارت رحاها بين القوات الروسية والقوات الجورجية بمثابة حرب ساخنة وخاطفة في الوقت نفسه، وبالنسبة لروسيا فإنها قد تعد بمثابة حرب وقاية Preventive War مكرسة لصيانة وحماية مجالها الحيوي.

- رئيس قسم الدراسات العامة وأستاذ العلوم السياسية المساعد
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[email protected]

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي