قتـــلى وجـــرحى (التسهـيـلات)!!!
<p><a href="mailto:[email protected]">Al-qasm-y@hotmail.com</a></p>
حدثني أحد الزملاء في سلك التدريس أن رجلاً هاتفه، يشكو إليه ضعفه، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، وأسرّ إليه بلسان يقطر ندماً، وقلب يعتصر ألماً، حاكياً عن نفسه : أنه كان يسكن في عمارته الخاصة هو وزوجه وأولاده، ينعمون بحياة هادئة، عنوانها السعادة والفرحة، وملؤها السكن والمودة، يغبطهم عليها الحبيب والغريب، ويحسدهم عليها الصاحب والقريب !!
وذات ليلة نما إلى علمه خبر سار، ملك قلبه، وغيّر مجرى حياته، وقلب موازينه رأساً على عقب، وهو أن الثراء الذي يحلم به أوشك أن يكون حقيقة، ولم يبق بينه إلا رمية حجر ! هناك حيث سوق الأسهم . فما كان من هذا الرجل الحالم إلا أن عرض عمارته للبيع، وباعها بمليون ومائة ألف ريال، ثم استأجر إحدى شققها من المشتري، وحشر أهله فيها، مؤملاً لهم بمستقبل واعد، وتأبط ماله متجهاً شطر السوق، يسابق الخطى، ويستعجل المسير، حتى أتى السوق، ودفع بماله كله نحو الأسهم، وبقي ينتظر اليوم الموعود الذي يصبح فيه رجلاً ثرياً، يصدّر في المجالس، ويبدأ بالسلام، ويخص بالتوقير والاحترام، ثم كانت الفاجعة، وحلت الكارثة، حيث هوى السوق وهوى معه صاحبنا، ولم يبق من أسهمه إلا كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل !!
وهكذا تبخر ماله وتبخرت معه أحلامه، وضعف بعد قوة، وذل بعد عزة، ولم يبق في يده من المال ما يسدد به إيجار منزله ! ولسان حاله : يا رب إلى من تكلني ؟ إلى فقر يتجهمني ؟ أم إلى مؤجر ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي،غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات أن يحل علي غضبك، أو ينزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك .
هذا شاهد عيان، يروي تفاصيل قصته بعبرته، ويقصها بدموعه؛ ليأخذ منها إخوانه العبرة والعظة.
وأبلغ منه عظة، وأعظم منه حسرة، أولئك الذين غرتهم الشعارات والدعايات، حين رأوا - وليس من رأى كمن سمع - دعاية هنا وإعلان هناك عن مشروع بنكي يدعى ( التسهيلات )!! يسهل على المواطنين أمورهم المادية، ويخفف عنهم التزاماتهم الشخصية، ويسهم في انتشالهم من ذل الفقر إلى عز الغنى، (وهو جزء من المشروعات الوطنية) التي تسهم بها البنوك على أرض الوطن ؛ خدمة للمواطنين، وعرفاناً لعملائها بالجميل !
ولم يدر في خلد هؤلاء البسطاء أننا في عصر التلاعب بالألفاظ والمصطلحات، في السياسة والمال والإعلام والمنتديات، حيث ظنوا - وهم العرب لغة واصطلاحاًً - أن التسهيلات من السهولة، وهي اليسر والسماحة والليونة، فتفاءلوا خيراً، ولاح لهم الفرج بين النقاط والحروف، وضربوا من هذه التسهيلات بسهم، ولكن حين وقعت الفأس على مليوني رأس، ظهرت الحقيقة، وتبين أن هذه التسهيلات ليست هي المعنية في لغة العرب، وإنما هي اصطلاح من نوع آخر ! وإذا بأربابها ينطقون بلغة غير لغتنا، وإن كانوا من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا ! وإذ بـ (التسهيل) يغدو (إسهالاً) !! وإذ بالحمل الوديع يصبح شبحاً مخيفاً، بل عدواً كاسراً، لا يرحم فقيراً لفقره ولا يتيماً ليتمه، ولا يرعى مسناً لسنه، ولا يعرف لذي حق حقه، حتى غدا السوق كساحة حرب، يضج بقتلى وجرحى عزلى من المال والسلاح، إلا من البكاء والعويل !!!
ومن العبر في هذا المشهد المبكي : ألا نعجل في اتخاذ القرار، وألا يدفعنا الطمع إلى الطيش والسرعة، وعدم التثبت والتروي، وفي هذا المعنى يروي لنا ابن المقفع في كتاب (كليلة ودمنة ص 204-205) : " أن رجلاً كان يجري عليه من بيت تاجر في كل يوم رزق من السمن والعسل، وكان يأكل منه قوته وحاجته، ويرفع الباقي ويجعله في جرة، ويعلقها في وتد في ناحية البيت حتى امتلأت . وبينما هو ذات يوم مستلق على ظهره، والعكازة في يده، والجرة معلقة فوق رأسه، تفكر في غلاء السمن والعسل، فقال : سأبيع ما في هذه الجرة بدينار، وأشتري به عشر أعنز، فيحبلن ويلدن في كل خمسة أشهر بطناً، ولا تلبث إلا قليلاً حتى تصير غنماً كثيراً إذا ولدت أولادها، فإذا بلغت الأعنز أربعمائة، أشتري بها مائة من البقر، بكل أربع أعنز ثوراً أو بقرة، وأشتري أرضاً وبذراً، وأزرع على الثيران وأنتفع بألبان الإناث ونتاجها، فلا تأتي علي خمس سنين إلا وقد أصبت من الزرع مالاً كثيراً، فأبني بيتاً فاخراً، وأشتري إماء وعبيدا، وأتزوج امرأة جميلة ذات حسن، وأدخل بها، فتحبل ثم تأتي بغلام سري نجيب، فأختار له أحسن الأسماء، فإذا ترعرع أدبته وأحسنت تأديبه، وأشدد عليه في ذلك، فإن قبل مني وإلا ضربته بهذه العكازة، وأشار بيده إلى الجرة فكسرها، وسال ما فيها على وجهه ! " وهكذا تبددت آماله شذر مذر حين انكسرت الجرة وسال العسل، كما تبددت أحلام وأمال كثيرين حين انكسر السوق وانهارت الأسهم.
بقي أن يقال للقراء الأعزاء : كم من محنة في طيها منحة، وكم من أمر ينغص عليك حياتك، ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، فلا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمته، فسر في الأرض، وامش في مناكبها، وكل من رزقه، ولا تقل لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، وما تدري ربما صرف الله عنك شراً، أو طرد عنك عيناً،وربما كان ما وقع لك من خسارة سبباً في انصرافك عن الحرام أو عن مشتبهات الآثام، فاستعن بالله، ولا تعجز، واطلب المال الحلال مظانه، واعلم أن المال الحلال يبارك فيه وإن كان قليلاً، وتذكر بمصيبتك مصيبة إخوانك المسلمين في فلسطين والعراق، ممن حاصرهم المرض والجوع، وأحاط بهم الموت من كل مكان، مع ضعف الناصر، وقلة المعين، كان الله في عوننا وعونهم، آمين .