المحافظون الجدد بين رائحة النفط وعقائد الدين
البعض يرى بأن هذه الاندفاعة الأمريكية تحركها رائحة النفط ولا تدفعها عقائد الدين، وهذا قد يكون صحيحا إلى حد ما، فمن تحركهم شهوة المال يجدون في عاطفة الدين أقوى سلاح يمكن أن يستخدم، فالصهيونية هي في الواقع حركة سياسية علمانية لا تنطلق من اعتبارات دينية، ولكنها أدركت أهمية البعد الديني كمحرك للعواطف.
نواف مشعل السبهان
ظهر مسمى المحافظين الجدد وبقوة مع مقدم الإدارة الأمريكية الحالية، وقد تبلور بداية مع ولاية الرئيس الأسبق رونالد ريجان أوائل الثمانينيات، وبدأ يتشكل بشكل أوضح في ولاية الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، إلا أنه انكمش طوال فترة ولايتي الرئيس الديمقراطي السابق بل كلينتون حتى عاد للظهور مجددا وبشكل أقوى وأكثر فاعلية مع مقدم إدارة الرئيس الحالي وبوش الابن والتي يسيطر عليها تيار المحافظين الجدد بالكامل، ولفت هذا التيار الانتباه لكونه يستمد موقفه من عقيدة دينية ويتبنى مواقف سياسية مثيرة للجدل في تشددها وتطرفها، فمن أين جاء هؤلاء المحافظون الجدد .. ومن أي مصدر يستقون فكرهم وعقيدتهم..؟
في كتابه "الاختراق الصهيوني للمسيحية" يذكر القس أكرم لمعي أن البداية جاءت من مؤتمر عقد في القدس عام 1988 تحت عنوان المؤتمر المسيحي الصهيوني، وارتكز هذا الموتمر على فكرتين أساسيتين الأولى, التأكيد على علاقة إسرائيل المميزة كشعب الله على أساس "شعب الله المختار"، والثانية الإيمان بأن "عودة" اليهود إلى فلسطين وتأسيس الدولة اليهودية الخالصة حسب مفاهيمهم سوف تعجل بالمجيء الثاني للسيد المسيح عليه السلام، والذي من شروطه إقامة دولة إسرائيل ليحكم العالم من أورشليم اليهودية لمدة ألف عام، وبناء على ذلك أصدر المؤتمر توصية تدعو المسحيين لتأييد إسرائيل، من هذا المنبع تكون فكر وعقيدة تيار المحافظين الجدد الذي تشكل من نشوء ما عرف بالمسيحية الصهيونية والقائم على الإيمان المطلق بأن دعم إسرائيل واجب ديني وشرط أساسي لمجيء سيد المسيح عليه السلام، وروج لمفهوم ديني خطير وهو أن مستقبل المسيحيين مرتبط بدعم وتأييد إسرائيل وأن من يرفض ذلك سوف يدان من الله.
من خلال هذه الجذور الصهيونية للمسيحية الصهيونية والتي ظهر منها تيار المحافظين الجدد وهيمنتهم على السلطة في الولايات المتحدة عبر الإدارة الحالية، نستطيع أن نفهم واقع وحقيقة السياسة الأمريكية وندرك أبعاد ما تتميز به في ظل إدارة يمينية تستمد فكرها من عقيدة مسيحية متصهينة، من اندفاع محموم لشن الحروب في منطقة الشرق العربي والإسلامي بما يؤكد استخدام البعد الديني لهذه الحروب، ومن هنا نستطيع أن نفهم ما يردده الرئيس بوش دائما بأن الولايات المتحدة لن تنسحب من المنطقة، ويعني بالذات أفغانستان والعراق، إلا بعد تحقيق النصر الكامل، والنصر الكامل الذي يقول به دائما يثير الكثير من التساؤلات .. فما المقصود بمفهوم النصر "الكامل" الذي عناه ويعنيه، وعلى من يريد تحقيقه..؟
الهدف الواضح والمعلن على البؤرة هو الإرهاب، ولكن الإرهاب في حقيقة الأمر ليس إلا هدفاً وهميا، أما الهدف الحقيقي فهو المنطقة بكاملها، وإذا ربطنا مفهوم النصر "الكامل" الذي يردده بوش بعقيدة تيار المسيحية الصهيونية التي تؤمن بها إدارته، نستطيع استجلاء أبعاد هذا المفهوم بدقة.
لو عدنا لعقيدة المحافظين الجدد المهيمنين على الإدارة الأمريكية منذ مطلع الألفية الجديدة المرتكزة على أن عودة السيد المسيح لن تتم إلا بعد قيام الدولة اليهودية النقية بعاصمتها القدس المهودة بالكامل، لاستوعبنا بدقة المقصود بالنصر "الكامل" الذي يعدون به في البيت الأبيض والبنتاغون بدافع عقيدة مرتكزة على مفاهيم يهودية أسطورية استطاعت الصهيونية تحويلها إلى مشروع سياسي لإقامة حلم "إسرائيل الكبرى" من الفرات إلى النيل، والحركة الصهيونية معروف عنها امتطاؤها لصهوة أي قوة تبرز لتستخدمها لتحقيق أهدافها، وقد وجدت ضالتها في الولايات المتحدة بقوتها العاتية وسطوتها العالمية خصوصا بعد انفرادها بالقوة عقب سقوط الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفيتي لتكون هي الحصان الجامح الذي يمكن امتطاؤه، وهاهو الحصان الأمريكي الجامح يضرب بحوافزه العسكرية أفغانستان أولا ثم العراق ثانيا ويناوش سوريا حاليا، ومن تسلسل الأحداث وتتابعها تتضح الصورة تقريبا عند القيام بعملية ربط ما بين عقيدة المحافظين الجدد المنبثقة من تيار المسيحية الصهيونية والمغامرات العسكرية الأمريكية التي وصفها بعض الأمريكيين أنفسهم بأنها لخدمة إسرائيل بالدرجة الأولى، فالقراءة المتأنية لواقع حال أمريكا في ظل إدارة هذا التيار تؤكد على أن القوة الأمريكية تستخدم اليوم لمصلحة الصهيونية وإسرائيل، وتعمل على تهيئة المنطقة لفرض المفهوم الإسرائيلي عبر "تنظيفها" من أي فكر ديني ووطني مقاوم يمكن أن يعوق تحقيق الدولة اليهودية الخالصة والنقية لتمهيد الطريق لمجيء السيد المسيح عليه السلام، ومن هذا المنطلق لا بد وأن نفهم المقصود بالنصر "الكامل" الذي يردده الرئيس بوش تكراراً والذي يقصد به إخضاع المنطقة بكاملها وتدجينها، وجاءت البداية من أفغانستان لأسباب غير الأسباب المعلنة وهي الحرب على الإرهاب، فحكم طالبان لم يكن هو الهدف بذاته، فقد كان الهدف البعيد، تحت غطاء الحرب على الإرهاب، هو ضرب فكرة إمكانية نشوء نظام حكم إسلامي يمكن أن يتطور من نظام طالبان وينبثق من خلال عملية تطور تصحح كل المفاهيم الخاطئة له، فالهدف هو ضرب قواعد العقيدة حتى لا تنهض على شكل نظام حكم رشيد فيما بعد عبر تسلسل تغير تصاعدي، فالصراع من وجهة نظرهم هو صراع ديني، أو لنقل إن الدين استخدم كمحرك للعواطف واستغلالها، والاستخدام الاستغلال واضح في هذا التزاوج ما بين الأساطير الصهيونية مع عقيدة عودة السيد المسيح التي جيرتها الصهيونية لمصالحها حينما أوجدت تيارا مسيحيا متصهينا يربط ما بين عودة السيد المسيح وإقامة الدولة اليهودية النقية الخالصة، وهو تيار وإن وجد له نفوذ قوي في الولايات المتحدة إلا أن معظم المسيحيين وخاصة مسيحيي الشرق يرفضون هذا الربط "الصهيومسيحي" ويعتبرونه استغلالا بشعا للدين.
البعض يرى بأن هذه الاندفاعة الأمريكية تحركها رائحة النفط ولا تدفعها عقائد الدين، وهذا قد يكون صحيحا إلى حد ما، فمن تحركهم شهوة المال يجدون في عاطفة الدين أقوى سلاح يمكن أن يستخدم، فالصهيونية هي في الواقع حركة سياسية علمانية لا تنطلق من اعتبارات دينية، ولكنها أدركت أهمية البعد الديني كمحرك للعواطف، والذي أمامنا الآن هو تحالف غريب ما بين الأطماع المادية مع العواطف الدينية، والمحافظون الجدد يبدو أنهم تجار أكثر منهم مؤمنين، ولهذا لا يفطنون لخطورة استخدام الدين لأغراض الدنيا ويلعبون بالنار الحارقة، وما يجري في العراق اليوم شاهد على ذلك.