جزيرة العرب: جزيرة الفن والطرب
عابر السبيل الذي لا يدقق النظر ولا يستقصي الخبر قد يتوهم أن الجزيرة العربية صحراء جرداء وبيدا يبابا لا مكان فيها للفن ولا أي من مقومات الإحساس الرقيق والذوق الرفيع. قد يظن خاطئا أن سكانها من الأعراب الأجلاف وأهل القرى والأرياف الذين قست قلوبهم وخشنت طباعهم وجبلت نفوسهم على الغلظة والرعونة وغلب على سلوكهم التعصب والتزمت. ليس كمثل هذه الصورة مجافاة للحقيقة وبعدا عن الواقع. ابن الجزيرة إنسان. والإنسان فنان بالطبع والفطرة، جبله الخالق عز وجل على حب الجمال، الذي هو كما أن اللغة مزية فضل بها ابن أدم على بقية المخلوقات. وجحدان ذلك وأد للطبيعة الإنسانية وكفران بنعمة من أعظم نعم الله على البشر.
من يمضي عمره في ربوع الجزيرة العربية أو يقضي ردحا من الزمن مع شعبها يتقلب في أرجائها ويعايش أهلها في مختلف أحوالهم الاجتماعية يدرك أن جزيرة العرب هي في حقيقة الأمر جزيرة الفن والطرب. تشرب أهلها الفن وتأصل في نفوسهم. يجري في عروقهم وتهفو إليه أفئدتهم. لهم ولع بالجمال ويتمتعون بقسط وافر من الذوق الفني والحس المرهف على الرغم من شح الطبيعة وشظف العيش. ولا يقتصر كلف أهل الجزيرة بالفنون على الغناء والرقص، بل إن الفن بمختلف تجلياته وأنماطه متغلغل في نفوس الناس عندنا ومتأصل في أحاسيسهم، تضرب جذوره في أعماق ثقافتهم لتوجه سلوكهم وتلون رؤيتهم في الكون والحياة ونظرتهم إلى الطبيعة والأشياء المحيطة بهم. تعلق شعب الجزيرة بالفنون الغنائية والحركية يرتبط بمنظور فني أعم وأشمل، أعني النظرة الجمالية لإنسان الجزيرة العربية وارتباط حياته بمختلف مظاهر الفن المحسوسة والمعقولة، المادية والروحية.
لنبدأ بفن القول لأن فن القول في حد ذاته، شعرا ونثرا، فن من أعظم الفنون. ولا مشاحة أن العرب على اختلاف مواطنهم وعبر القرون بزوا الكثير من الأمم في ميدان الأدب على الصعيدين الشفهي والمكتوب. والأدب الشعبي في حد ذاته فن رفيع يشهد على ما يتمتع به ابن الجزيرة من إحساس مرهف. هذا الأدب الذي هو صوت الشعب وروحه النابضة وعاء قولي يعبر عن شمولية الفلسفة الجمالية لابن الجزيرة العربية ومرآة تعكس عمق رؤيته الفنية في الطبيعة والحياة على وجه العموم. فأدبنا الشعبي بكل أجناسه وفي كل مناطق الجزيرة المترامية الأطراف وثيقة مفتوحة، مسرح واقعي يعرض ثقافة المجتمع وحياة الشعب وإنتاجه الفكري والمادي. الأديب الشعبي فنان ماهر واثنوغرافي قدير يصف ما يشاهده بدقة متناهية ويرسمه في صور أدبية رائعة. هذه الصور والمواضيع لم يخلقها الأديب أو الشاعر من عدم. إنها مستمدة من معاينة سلوك الناس في معاشهم اليومي وحياتهم العادية وما يمارسونه من حرف وينتجونه من أدوات. هذه الصور الواقعية التي يتضمنها الأدب الشعبي تؤكد أن الحياة في جزيرة العرب تسير وفق إيقاع منتظم وأشكال متناسقة وألوان زاهية وروائح عطرة، ألم نكن نحن الذين صدرنا البخور إلى العالم قبل أن تدشن باريس مصانع العطور بعدة قرون، ونحن الذين وردنا الحرير لأوروبا قبل أن تدشن روما عالم الأزياء وفساتين السهرات؟! ألسنا من علّم الغرب الطبخ وأمددناهم بالتوابل والبهارات؟!
لو كان لدي فسحة من الوقت لفصلت القول عن تفنن الناس عندنا في صنع القهوة العربية كما يصف ذلك لنا الشعراء الذين يسهبون في الحديث عما تتطلبه من أنية وبهارات وما يلزم إعدادها وسكبها من حذق وبراعة وما يحيط بتقديمها من معتقدات وطقوس، طقوس المنادمة التي تعمق الروابط الإنسانية والشعور المشترك بين الجماعة والخلان. لقد خصص الشعراء الشعبيون لهذا الموضوع قصائد لا تقل كما وكيفا عما خصصه النواسيون لابنة الكرم. القهوة العربية مزيج متآلف من اللون والطعم والرائحة الفواحة، إشباع حقيقي للحواس وتعبير صادق عن الذوق الرفيع. حتى حمص البن وسحقه بالهاون يتم وفق حركات وإيقاعات تطريبية تبعث البهجة في نفوس الحاضرين. قارن إعداد القهوة العربية وطقوس تقديمها بالقهوة الأمريكية أو التركية وسوف تلاحظ الفرق.
لو أجلنا النظر في بيئتنا المحلية لوجدنا الحس الفني ماثلاً في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا التقليدية، وذلك بعكس ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة حين ينصرف الحديث إلى حياة صحراوية تسودها روح البداوة. نحن هنا لا نتحدث فقط عن الشعر والغناء والرقص بل أيضاً عن مظاهر الفن الشاخصة المرئية كما تتمثل في صناعات الأدوات التقليدية. انظر إلى الآنية والأشياء التي يستخدمها الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وتنقلاته وغير ذلك من منافعه الخاصة فإنها قلما تخلو من اللمسات الفنية. انظر إلى أبسط الأشياء مثل "البيز" المزركش الذي يستخدمونه لوقاية اليد ضد حرارة الدلة أو الإبريق، ألا يمكن أن تفي بهذا الغرض أي قطعة من الخيش أو القماش البالي؟! قل الشيء نفسه عن "المبرّد" الذي كانوا يستخدمونه لتبريد القهوة بعد تحميصها وعن "المهفّة" التي كانت تستخدم للترويح عن الجسم أيام الحر. انظر إلى دقة النقوش والحذق في صناعة "الدلة" و"المبخرة" والزخارف الجصية التي يزينون بها مجالسهم! انظر مثلا إلى فنون النطي والغزل والسدو والنسيج والتطريز. انظر إلى الأزياء والحلي الشعبية. وإن شئت فانظر إلى الفنون الزخرفية والنقوش على الأبواب والمصاريع. ألم تتعجب من عناية الأقدمين وتفننهم في زخرفة سرج الحصان واللجام و"شداد" المطية و"الهودج" و"الساحة" التي كانوا يجلسون عليها؟!
وفي قوة الملاحظة ودقة الوصف والمجازات التي يستخدمها العربي لتجسيد مظاهر الطبيعة أقوى شاهد على شفافيته وحسه الفني. فكثيب الرمل ردف الحبيبة والليل شعرها والبرق ثغرها والماء عينها. ويحب العربي الألوان الزاهية مثل الإبل الوضحاء والحمراء والشقحاء, ويستأنس بالأسواق الموسمية لما فيها من تنوع وتلوين حيث يفد إليها الناس من مختلف الجهات والقبائل على اختلاف أزيائهم ولهجاتهم.
الفنون الشعبية في الجزيرة العربية موضوع واسع ليس من السهل حصره وتحديده. وحتى حينما تقصر الحديث على فنون الغناء والرقص يبقى الموضوع متشعبا يصعب لم أطرافه والإحاطة به. فعلى الرغم مما قد يتبادر إلى أذهان البعض، لأسباب لا داعي للخوض فيها الآن، فإن جزيرة العرب، جزيرة الفن والطرب، من أغنى بقاع العالم بفنونها الحركية والموسيقية. ولعل الفرق التي نراها في مهرجان الجنادرية لأصدق دليل على ذلك، علما بأن المهرجان لا يستوعب كل ألوان الفنون الغنائية ولا كل المناطق، وما نراه ليس إلا قطرا من بحر. ومع ذلك فإن الفرق التي نراها في الجنادرية تنبئ عن ثروة موسيقية هائلة. العمق التاريخي والثقافي لجزيرة العرب، امتدادها الجغرافي، بما يأهله من جماعات مختلفة، موقعها على مفترق الطرق الحضارية منذ عصور ما قبل التاريخ -كل ذلك جعل منها مستودعا ضخما لفنون شتى، البعض منها ورثته عن السلف، والبعض منها اكتسبته من أماكن دنيا أو قصية عن طريق التبادل التجاري والتجاور والاحتكاك والغزوات والهجرات. هناك فنون البحر وفنون الصحراء، هناك فنون الساحل وفنون الداخل، هناك فنون البادية وفنون الحاضرة، هناك فنون القرية وفنون المدينة، هناك الفنون التليدة والفنون الوافدة. هناك أغاني العمل وأغاني السمر، هناك أغاني الأفراح وأغاني الأتراح، هناك أهازيج السلم والأعياد وأراجيز الحرب والنزال. وفي البادية "يحدون" على الخيل و"يهيجنون" على الهجن ويهزجون الأهازيج وهم يمتحون الماء من الآبار لسقي الإبل. استمع لأغاني الفلاحين وهم يحرثون الأرض ويسقون الزرع، وهم يجنون الثمار ويحصدون القمح، ثم وهم يدرسونه ويذرونه ثم وهم يطحنونه بأيديهم قبل عصر الآلة. البعض منا لا يزال يذكر الأغاني الجميلة التي تردد أثناء "السواني" و"كمام النخل" و"الختام" و"الحصاد" و"الدياس". استمع لأغاني البحارة وهم يرفعون الشراع ويشدون الحبال ويحركون المجاديف. من ينظر إلى منطقة الخليج في شرق الجزيرة العربية ومنطقة البحر الأحمر في غربها يلاحظ ثروة هائلة من الأنغام والإيقاعات والرقصات والمقامات الصوتية بعضها جاء من الهند وبعضها من إفريقيا ومعظمها توارثته الأجيال من جاهلية العرب الأولى مروراً بمختلف عصور الحضارة العربية الإسلامية المتعاقبة. والبيئات البحرية بطبيعتها مزيج من الأجناس والحضارات وهي محطات توريد وتصدير حضاري وبشري. لذا فهي غنية بالفنون التي يتغنى بها الصيادون والغواصون والمسافرون في عرض البحر أو متاهات الصحراء.
هذا هو الجانب المغيب من ثقافة الجزيرة العربية التي لم يعد يعرف الناس عنها في الخارج إلا أنها مهد التطرف الديني والتزمت الأخلاقي. فهناك محسن الهزاني ومحمد بن لعبون والدجيما وابن سبيل وغيرهم ممن يمثلون الجانب الإنساني المشرق والنقيض لتلك الصورة النمطية، الجانب الأنيق الذي يحب الحياة ويقبل على مباهج الدنيا وما فيها من متعة ومرح والذي يتمتع بدرجة عالية من الحس الفني والجمالي.