التحولات المرتقبة في سياسات الطاقة في الدول المنتجة والمستهلكة للنفط

كل التوقعات تشير إلى نمو متواصل في استهلاك النفط خلال العقود المقبلة لا يتوقع أن يقابله نمو مماثل في احتياطيات النفط عالميا،ً ما قد يعني بدء العد التنازلي لمرحلة ما بعد النفط التي تتطلب تطوير مصادر بديلة للطاقة تسمح بتحقيق استغناء تام عن النفط مستقبلاً والذي سيصبح حتمياً بنضوب النفط. هذه الحقيقة تتطلب دون أدنى شك تغيراً جذرياً في سياسات الطاقة في الدول المنتجة والمستهلكة وفي موقفها من ارتفاع أسعار النفط الخام بشكل خاص.
ففي العقود الثلاثة الماضية كان اهتمام معظم الدول المنتجة منصب على تجنب حدوث ارتفاع كبير في أسعار النفط الخام، لما يترتب على ذلك من تراجع في الطلب وزيادة في حدة المنافسة بين الدول المنتجة تدفع الأسعار للانخفاض بحدة. فارتفاع أسعار النفط خلال الفترة من عام 1979 إلى عام 1981 على سبيل المثال أدى إلى حدوث انخفاض كبير في الطلب العالمي على النفط، حيث إن إنتاج دول أوبك في عام 1985 يعادل 52 في المائة فقط من حجم إنتاجها عام 1979 وانخفض نصيبها من إنتاج النفط العالمي من 49 في المائة إلى 30 في المائة فقط، نتيجة للضرر البالغ الذي ألحقه ارتفاع أسعار النفط باقتصادات الدول المستهلكة والمتمثل في ارتفاع معدلات التضخم والفائدة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، ما حد من الطلب على النفط وساعد على تبني سياسات رفعت كفاءة استهلاكه وشجعت على استخدام مصادر بديلة للطاقة.
إلا أن الملاحظ أن الارتفاع المستمر في أسعار النفط الخام منذ عام 2003 لم يحمل الآثار نفسها، فالطلب العالمي على النفط ما زال يواصل نموه والدول المنتجة كافة عدا السعودية تنتج عند أو قرب طاقتها الإنتاجية القصوى، والاقتصاد العالمي يحقق معدلات نمو عالية نسبيا، ولم ينتج عن الارتفاع المتواصل في أسعار النفط الخام أي تأثير كبير على معدلات التضخم والفائدة عالميا.
لذا فالدول المستهلكة مطالبة بأن تدرك أنها الآن أمام تحد جديد يتمثل في اعتمادها الكبير على نفط بدأت في الظهور مؤشرات على قرب نضوبه في عقود قليلة، ويجب ألا تكون كما كانت في السابق معنية فقط بالتأثير السلبي لارتفاع أسعار النفط الخام في أداء اقتصاداتها، بل محتاجة إلى دفع اقتصاداتها لتسريع معدلات رفع كفاءة استخدام النفط ورفع الجدوى الاقتصادية لمصادر الطاقة البديلة وتسريع التطور التكنولوجي لإيجاد مصادر بديلة للطاقة في الوقت المناسب، وهي عملية تحتاج إلى عدة عقود من الزمن ومتعذرة في ظل أسعار نفط متدنية.
بالنسبة للدول المنتجة فإن استمرار النمو في الطلب وفق معدلاته الحالية سيتطلب مضاعفة الإنتاج العالمي من النفط خلال أقل من 30 عاما. وهو أمر غير ممكن على الإطلاق في ظل المعطيات الحالية التي تشير إلى بدء تراجع حجم مخزون النفط عالميا بسبب شيخوخة معظم حقول النفط الضخمة في العالم وعدم حدوث أي اكتشافات مهمة خلال الـ 20 عاما الماضية. ما يجعل الدول المنتجة في حاجة إلى ارتفاع أسعار النفط الخام لتخفيض معدلات النمو في الطلب ما يحد من الضغط عليها لزيادة إنتاجها واستنزاف احتياطياتها بسرعة في الوقت الذي تحقق عوائد مالية أعلى من ثروتها النفطية الناضبة.
وبشكل عام يمكن إيجاز أهم انعكاسات التغير الهيكلي الذي تشهده سوق النفط العالمية على سياسات الطاقة في الدول المنتجة والمستهلكة في التالي:
1- بالإضافة إلى ما يحققه ارتفاع أسعار النفط من إيرادات مالية ضخمة للدول المنتجة، فإنه يسهم في تخفيض معدلات النمو في الطلب على النفط عالميا ما يحد من التكاليف المالية الباهظة لرفع الطاقة الإنتاجية التي ستضطر الدول المنتجة لتحملها لكي تتمكن من تلبية النمو المتسارع في الطلب، كما سيسهم في إطالة عمر احتياطياتها النفطية وعدم استنزافها بمعدلات لا تتوافق ومصالحها الوطنية العليا.
2- إدراك الدول المستهلكة حقيقة كون النفط سلعة ناضبة يعني أن اقتصاداتها بحاجة إلى الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط, من خلال بذل جهود أكبر لزيادة اعتمادها على مصادر الطاقة الأخرى ورفع كفاءة استخدامها للنفط ويحتاج ذلك إلى حوافز سعرية تحد من معدلات استهلاك النفط وتشجع على الاعتماد على مصادر بديلة ولن يكون ذلك ممكنا دون ارتفاع مناسب في أسعار النفط الخام.
3- كون مصالح الدول المنتجة والمستهلكة طويلة المدى وللمرة الأولى في تاريخ السوق النفطية متطابقة وتتحقق من خلال ارتفاع أسعار النفط الخام يعني الحاجة إلى تعاون أكبر بين الدول المنتجة والمستهلكة تفاديا لأزمة الطاقة المقبلة، ومصلحة كلتا المجموعتين هي في بذل كل جهد ممكن للحد من نمو الطلب على النفط. فالدول المنتجة ليست في حاجة إلى الحد من فائض الإنتاج لحماية الأسعار من الانهيار، ما يعني انتهاء مبرر بقاء منظمة أوبك. ووكالة الطاقة الدولية لن ترى نفسها في مواجهة مع الدول المنتجة، ما يسمح بانضمام الدول المنتجة للنفط إلى وكالة الطاقة الدولية، بحيث تصبح تنظيماً جديداً يجمع الدول المنتجة والمستهلكة، ويهدف بشكل أساسي إلى تسريع رفع كفاءة استخدام النفط ودعم جهود البحث والتطوير للوصول إلى بدائل للطاقة تحد من نمو الطلب على النفط.
4 - سيكون هناك استغلال أكبر لمصادر الطاقة المحلية في الدول المستهلكة، وستقر قوانين تسهم في تخفيف الشروط البيئية وتشجع على التنقيب عن النفط والغاز. وإقرار الكونجرس الأمريكي مشروع قانون يشتمل على حوافز ضريبة ودعم اقتصادي لشركات الطاقة لزيادة إنتاجها المحلي من النفط والغاز والفحم والطاقة النووية وغيرها من مصادر الطاقة وتطوير تكنولوجيا كفاءة استخدام الطاقة والسماح بفتح المحميات الطبيعية في ألاسكا أمام عمليات التنقيب عن النفط والغاز مثال على ذلك.
5 - سيكون هناك تغير في هيكلية الطلب على النفط في الدول المستهلكة من خلال الحد من طلب وسائل المواصلات، الذي يمثل على سبيل المثال ثلثي الطلب على النفط في الولايات المتحدة، باستخدام بدائل أخرى للمواصلات وزيادة استخدام السيارات المهجنة والهيدروجينية. علماً أن تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى أنه في حال استبدال كل سيارات العالم بسيارات مهجنة فلن ينخفض الطلب على النفط في عام 2030 والمقدر بنحو 138 مليون برميل يوميا إلا بنحو 20 مليون برميل يوميا، نظراً لأن تقديرات الصندوق لحجم الطلب على النفط في عام 2030 تتضمن تخفيضاً قدره 50 مليون برميل يوميا في حجم الطلب المتوقع تحسباً لحدوث ارتفاع كبير في كفاءة استخدام النفط خلال السنوات المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي