احذروا أصولية رأس المال
<a href="mailto:[email protected]">sowayan_media@yahoo.com</a>
أي مجتمع إنساني هو عبارة عن مؤسسات وقوى ومصالح أحيانا تتصارع وأحيانا تتحالف، لكنها ما دامت تحتفظ بقدر معقول من التوازن في صراعاتها وتحالفاتها فإن المجتمع يبقى صحيحا معافى. هذه الصراعات والتحالفات هي القوة الديناميكية التي تحرّك المجتمع ذاتيا وتذكي فيه روح التنافس وتدفع بعجلة التقدم والتطور. يكمن الخطر حينما تستأسد واحدة من هذه القوى وتستفرد بالمجتمع وتتنكر للمصلحة العامة وتدفع بمصالحها على حساب غيرها وتضرب عرض الحائط بكل القوانين والأعراف والتنظيمات وتتخلى عن الالتزام بقوانين لعبة التنافس الشريف. المجتمع الإنساني شأنه شأن أي كائن عضوي ينبض بالحياة، يتألف من أنسجة وعضلات وأعضاء وجوارح تتساند وتتعاضد وتعمل مجتمعة مع بعضها البعض بانتظام وإيقاع متّزن، بحيث لا يجور أحدها على الآخر ولا يهيمن على وظيفته أو يحل محله. فلو أن أيا من هذه الأعضاء أو العضلات تضخم حجمه أو زاد نشاطه عن الحد الطبيعي لأدى ذلك إلى التلف والهلاك، فمن منا لا يقلقه ارتفاع ضغط الدم أو زيادة نبضات القلب أو تورم الغدد أو انتفاخ الرئتين؟!
تدبر مثلا ما حدث في العقود الماضية حينما أحكم المد الأصولي المتطرف قبضته على الأمة وما تلى ذلك من أزمات خانقة ما زلنا نعاني من آثارها. لم يكتف هذا المد الأصولي المتطرف أن أخذ مكانه الملائم وحجمه الطبيعي مثل غيره من التوجهات والمشارب، بل استشرى في جسد الأمة وضيق الخناق على كل ما سواه وأمسك بتلابيب مؤسسات الدولة الإعلامية والتعليمية وسخرها لخدمته ولتكميم أي صوت مخالف أو توجه مغاير. ومثلما يتسرب الماء من تحت القش والتبن لم نشعر إلا وهم قد تسللوا واخترقوا معظم مؤسسات الدولة، بما فيها العسكرية والأمنية، وكادوا بذلك أن يشكلوا دولة داخل الدولة، حتى صار الناس يخافونهم ويخشونهم أكثر مما يخشون مؤسسات الدولة صاحبة الشرعية الحقيقية، بل إنهم لم يكفوا عن محاولة التدخل السافر في فصل وتعيين من يتولون المناصب القيادية العليا لعلهم بذلك يتمكنون من صرف سياسة الدولة عما فيه خدمة الشعب وتوجيهها لخدمة أهدافهم ومصالحهم. ولقد عانينا في هذا البلد من آفات المد الأصولي المتزمت مثلما عانت غيرنا من البلدان الشقيقة في عالمنا العربي والإسلامي. وكان من الممكن أن ينحدر الوضع وتتردى الأحوال وتؤول إلى أسوأ مما آلت إليه لولا أن قيادة هذا البلد رأت في الوقت المناسب أن من الحكمة التصدي لهذا المد الهدام قبل أن يتحول إلى ورم خبيث. صد هذا المد المنحرف والوقوف في وجهه تطلب من القيادة قدرا غير قليل من الحزم والشجاعة وبعد النظر، ناهيك عن التضحيات البطولية الجسيمة التي قدمها أبناء شعبنا من قوى الأمن.
ها نحن تنفسنا الصعداء وبدأنا نستشعر طعم الحرية بعد أن ضربت الدولة بيد من حديد على أولئك البغاة وجعلت تدميرهم في تدبيرهم، لكن أخشى ما أخشاه أننا على مشارف أصولية جديدة من نوع مختلف أكثر فتكا وشراسة، أصولية رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال. هناك فرق بين الأصوليّتين لا شك، أولئك يزعمون أنهم يريدون الآخرة وهؤلاء يريدون الدنيا، لكن المنهج واحد من حيث محاولة التغلغل إلى جسم الدولة واختراق مؤسساتها المالية وتعطيل كل محاولة للرقابة وفرض النظام وسيادة القانون وتحقيق العدل والقسطاس. سلاح أولئك كان اللعب على مشاعر العامة من الناس البسطاء الأتقياء الذين يسهل التغرير بهم باسم الدين، أما سلاح هؤلاء فهو المال الذي به يستطيعون تحويل أي شيء إلى سلعة تباع وتشترى، بما في ذلك الضمائر والذمم. أولئك كانوا يتصيدون أتباعهم في المساجد والساحات أما هؤلاء فيتصيدون أتباعهم في صالات التداول والمنتديات. أولئك يصدّرون لأتباعهم صكوك الغفران أما هؤلاء فيصدرون لأتباعهم شيكات وأنواط، وليس الدفع الآجل كالدفع العاجل. لقد تقلصت صفحات الإفتاء في الجرائد والمجلات وانحسر المفتون في شؤون الدين ليحل محلهم المفتون في سوق الأسهم ليحللوا ويحرموا ويقدموا استشارات مجانية ويبيعوا الناس أحلاما وأوهاما شفطت ما في جيوب الفقراء لتودعه في جيوب الأغنياء.
أن تكون لك مصالح ترعاها وتحرص عليها وأن تكون لك توجهات تتبناها وتنافح عنها فهذا أمر مشروع لا غبار عليه، فالحوار في مجال الفكر والتنافس في مجال الاقتصاد من الدعائم الأساسية التي يرتكز عليها الحراك الاجتماعي، والحركة بركة، كما يقولون. أين يكمن الخطر إذن؟ يكمن الخطر في أن يعلو صوت واحد على كل الأصوات وتطغى مصلحة واحدة على كل المصالح. هنا تسعى الفئة الغالبة بكل ما أوتيت من قوة وتبذل قصارى جهدها وتمارس مختلف الضغوط من أجل إحالة القانون إلى فهلوة والنظام إلى بلطجة لتتمكن بذلك من خلخلة قدرات المؤسسات الشرعية التي بنتها الدولة لهدف خدمة الصالح العام وتقويض مصداقيتها، تماما كما حدث بالنسبة لهيئة سوق المال التي أصبحت تعلكها ألسنة الناس في المجالس وصارت مجال تندر العامة والخاصة ونكاتهم على الهواتف المحمولة حتى وصل الأمر إلى الإطاحة برأس الهيئة·
لا أريد أن أعزز مصداقيتي أمام القراء بالانزلاق إلى مزالق الكتاب الصغار أو من يمارسون العلاقات العامة من خلال الكتابة الصحافية أن أحدد طبيعة علاقتي بالسيد جماز السحيمي أو الدكتور عبد الرحمن التويجري وأعتذر لهذا وأطبطب على كتف ذاك وأنمّق لهما الكلام و(أشخصن) طرحي في هذه المقالة. فأنا لا تربطني علاقة شخصية بأي منهما ولا يهمني أمر أي منهما على المستوى الشخصي، وليس هذا مربط الفرس أصلا، فليس المهم من يأتي ولا من يذهب، بل المهم، والمهم جدا، هو كيف يأتي من يأتي وكيف يذهب من يذهب. ما يهم المواطنين ويسوءهم جدا هو أن تكشّر فئة ضاغطة عن أنيابها لتفتك بالهيئة الرقابية إذا رأت أن الأنظمة التي تطبقها الهيئة لا تخدم مصالحها· لذا نرجو ألا تتراخى أجهزة الدولة أمام ضغط هؤلاء حتى لا يحكموا قبضتهم على السوق ومدخرات المواطنين، فهم لن يقنعوا بإقالة هذا المسؤول أو ذاك ولن يرضيهم إلا اختراق هيئة سوق المال من أجل السيطرة التامة عليها ورسم سياساتها بأنفسهم، مثلما حاول قبلهم المتشددون من الأصوليين السيطرة على مؤسسات التعليم والإعلام·
لقد حان الوقت للوقوف وقفة تأمل مع الصناعيين ورجال المال والأعمال والمؤسسات المالية من بنوك وغيرها.
لقد استفاد هؤلاء الكثير الكثير من خيرات هذا الوطن وما وفرته لهم الدولة من الأمن وما وفرته لهم أجهزتها من تسهيلات. ولا أحد ينكر ما يقدمه هؤلاء لخزينة الدولة وتستفيده منهم عن طريق الزكاة والجمارك والضرائب، فهذه مقابل تلك، لكن ماذا قدم هؤلاء من تلقاء أنفسهم عن طيب خاطر للوطن والمواطنين؟ أين إسهامات البنوك وأصحاب الثروات في تشجيع العلوم الفنون والآداب؟ أين تبرعاتهم وهباتهم لبناء المستشفيات ودور العجزة والمعوقين والجمعيات الخيرية وفتح المدارس والجامعات والمتاحف ومراكز الأبحاث؟ وإن فتحوا المدارس والمستوصفات والصيدليات فهي لأغراض تجارية بحتة واستغلال حاجة المواطنين. حتى حينما طلبت منهم وزارة العمل توظيف السعوديين رفعوا أصواتهم متذمرين. وهم لم يعيدوا رؤوس أموالهم للاستثمار في بلدهم إلا بعد أن سدت في وجوههم المسالك في الخارج. هؤلاء يتعاملون مع الثروة بعقلية التاجر الحانوتي الذي يريد الربح فقط، لكنهم يفتقرون إلى التفكير الاقتصادي والمنظور الاستراتيجي الذي يدرك أهمية بناء الوطن والمواطن ومشاركة الآخرين في المكاسب. هذا النمط من التفكير الدكاكيني سوف يقود إلى خلق هوة سحيقة بين أقلية فاحشة الثراء وأغلبية فقرها مدقع والقضاء بذلك على الطبقة الوسطى التي تحفظ الاستقرار والتوازن في المجتمع. الثروات الفاحشة يكون ضررها أكثر من نفعها حينما تقع في أيدي أناس يفتقرون إلى الثقافة وتنقصهم مفاهيم الحضارة والتمدن وأساليب المعيشة الراقية. من يجالس هؤلاء يرى كيف أنهم يحتقرون كل الأشياء عدا المال واحتقارهم أشد لمن لا يملك المال. لقد أوهمتهم ثرواتهم الطائلة بأنهم يملكون من القوة ما يجعلهم فوق كل القوانين ولم يعودوا يستسيغون أن تطبق عليهم الأنظمة مثلما تطبق على غيرهم من خلق الله الضعفاء.