اللؤلؤ لا يطفو على السطح.. !
<a href="mailto:[email protected] ">[email protected] </a>
أضحى سبب التباين بين الدول التي أخذت تحقق خطوات متسارعة في طريق التنمية وتلك التي ما زالت تراوح مكانها بينـّـاً وواضحا. إنه يكمن مبدئيا في امتلاك الدول الناجحة لثلاثة عناصر: الرؤية النافذة، الإرادة الصادقة، والعزيمة الماضية. إن هذه العناصر هي مفاتيح الانعتاق من ربقة التخلف وشرط الانطلاق نحو آفاق التنمية. وبدونها لا يمكن التقدم قيد أنملة، مهما كان حجم الثروات الطبيعية أو مخصصات الإنفاق الحكومي السنوية.
لو وضعنا تحت أنظارنا خريطة زمنية متحركة للعالم خلال العقود الثلاثة الماضية فقط، لوجدنا أن دولا عديدة في مناطق مختلفة من العالم تغيرت نحو الأفضل، بينما بقيت للأسف مجموعة أخرى في مكانها، لا بل قد زاد الفارق بين بعضها وبعض الدول الأولى!
تمكنت دول في آسيا وأمريكا اللاتينية وشرق أوروبا من التطور نحو الأفضل وبدأت تلحق بالعالم المتقدم على تفاوت بينها، بينما بقيت للأسف دول عالمنا العربي قابعة في خانة الدول الراكدة جنبا إلى جنب مع جُل الدول الإفريقية، باستثناء ربما إمارة دبي تلك الإمارة الخليجية الصغيرة مساحة والمحدودة الإمكانيات، لكنها الكبيرة طموحا وإنجازا. ظلت الدول العربية تراوح مكانها على الرغم من استحواذها على قدر لا يستهان به من الإمكانيات والموارد المادية والبشرية. لكن هذه المقومات ما زالت مشتتة ومبعثرة وضائعة نظرا لافتقاد مجتمعاتنا العربية المفاتيح الأساسية اللازمة للتطور والتغيير. إن كل بناء يحتاج إلى أسس يقوم عليها، وكذلك الصروح الاقتصادية. وأسس انطلاق أي المجتمع هي اهتداؤه إلى بصيرة نافذة جنبا إلى جنب مع توافر صدق الإرادة وقوة العزيمة.
لقد شذت إمارة دبي عن هذا الوضع العربي العام، لأنها استوعبت وفهمت جيدا أسس العمل الاقتصادي السليم وعملت من أجله. فمن يشاهد ما جرى ويجرى في إمارة دبي، يستطيع أن يفهم المرامي والمعاني العميقة التي جاءت في كتاب " رؤيتي" كما صاغها مؤلف الكتاب وصانع نهضة دبي الحديثة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. ومن يتأمل أفكار هذا الرجل ويربطها بواقع الحال في إمارته، يعرف كيف شقت هذه الإمارة الصغيرة طريقها نحو المجد، وأي منهج اختارته لتسير على عتبات النجاح، وكيف استطاعت أن تضيف لقصص التنمية العالمية الناجحة قصة أخرى.
يعتقد الشيخ محمد بن راشد أن التفوق الحقيقي الذي يضمن اللحاق بالآخرين هو التفوق على النفس أولا. والتفوق على النفس يكون بالإيمان بالقدرات وبتفجير الطاقات وبالنظرة الايجابية للحياة وبالتخلص من اليأس وبالرغبة الصادقة في الإنجاز. وهو يرى أن النظرة الإيجابية للحياة تعني النظر إلى جملة التحديات، كمصدر لشحذ العزائم وتجديد الهمم. وهو يذكرني بنظرية "التحدي يولد الاستجابة" التي خرج بها أستاذ التاريخ الإنجليزي" أرلوند توينبي" بعد دراسته لتاريخ العالم والحضارات.
ويؤكد الشيخ محمد بن راشد، أن التخلف ليس هو مجرد التعثر عن مسيرة التطور، بل هو الرضي به والبقاء فيه. والفشل الحقيقي عنده هو عدم الرغبة في تغيير الواقع للنهوض والمشاركة في حركة التنمية العالمية. وأن أي مجتمع ينشد تغيير واقعه، لا بد أن يكون له مشروع يعمل من أجله، وفكرة يسعى لتحقيقها وريادة يأمل بلوغها وتميز يطمح إليه. ففي عالم تشتد فيه حّمي المنافسة، تبقى الريادة في مجال ما عنصرا أساسيا لضمان البقاء في حلبة التدافع العالمي.
لقد اخترع الأمريكان الفيديو والفاكس، واخترع الهولنديون الأسطوانات المدمجة، لكن جميع هذه المنتجات أصبحت يابانية بالنظر إلى حجم المبيعات والعمالة والأرباح، لأن اليابانيين طوروا بحوث العمليات لينتجوا هذه السلع بتكلفة أقل، فانتزعوها من مخترعيها. لا يستطيع أي مجتمع أن يزاحم ويضمن البقاء في حركة الدنيا، دون مشروع أو فكرة متطورة ومميزة يقدمها للآخرين.
لقد رغبت إمارة دبي في أن تكون مركزا تجاريا عالميا، وعرفت متطلبات تحقيق هذا المشروع وعملت بإرادة صادقة لبلوغ هذا الهدف،، واتخذت من جبال التحديات دافعا لتحقيق مشروعها القومي، فتحقق لها هذا الحلم. واليوم تحذو قطر حذوها بمشروع وطني آخر متميز. أنها ترغب في إنشاء صناعة تقنية متطورة تعتمد على الغاز الطبيعي، كما تخطط لأن تكون مركزا إقليميا للتعليم العالي المتميز وللخدمات الصحية المتقدمة. وستصل إلى أهدافها لوضوح رؤيتها وتميز مشاريعها، إضافة لامتلاكها الإرادة الصادقة والعزيمة الجادة لبلوغ هذه الأهداف.
إن البقاء في الأقبية والغرف المغلقة، والتمسك بالبرامج والسياسات الاقتصادية والإدارية العتيقة، في عصر تتفتح فيه الأبواب وتتطور فيه الأفكار، يفوّت على أي مجتمع إمكانية انتزاع نصيبه من خيرات النمو المتجددة.
لكن الشيخ محمد بن راشد يؤكد أن الرؤية التي تحمل مشروعا واضحا لا تكفي، بل لا بد من أن يجد هذا المشروع سبيله نحو التنفيذ. فالتاريخ لا يحفل بالأفكار ولا بأصحابها، وإنما بصروح المشاريع والأفكار القائمة على أرض الواقع. ويضيف في تشبيه بالغ الدلالة أن اللؤلؤ لا يطفو على السطح، بل يجب أن نغوص من أجله، لأن الحياة فرص، والفرص لا تطرق الأبواب بل يجب انتزاعها انتزاعا.
لقد حدد هذا الرجل سبب الفشل العربي في التنمية الصحيحة بجملة قصيرة ذكية، لأن الوقت لديه ثمين، فقال إن هذا الفشل هو نتيجة طبيعية للفشل في الاهتمام بالناس!
كتاب "رؤيتي" للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ليس مجرد كتاب تقليدي في أسلوب إدارة الاقتصاد الحديث، بل هو مجموعة من الجمل القصيرة التي ترقى لدرجة الحِكم - أي والله الحِكم - الاقتصادية والإدارية المتطورة التي تسابق بعضها بعضا كما تسابق نهضة دبي الاقتصادية نفسها.
إن قصة التنمية في هذه الإمارة الصغيرة هي قصة برنامج تنمية من أجل البقاء وضمان عدم الاضمحلال.
كنت أتساءل بعد قراءتي كتاب "رؤيتي"، أليس اقتصادنا بحاجة لحملة اقتصادية تتخذ من نفس شعار الحملة المرورية الأخيرة (يكفى)، شعارا لها؟