تزايد الدين العالمي وترتيب الأوضاع المالية
أدت التحولات الهائلة الحالية على مستوى السياسات إلى تصاعد حالة عدم اليقين العالمية. فقد ازدادت تقلبات الأسواق العالمية وتراجعت آفاق النمو وتفاقمت المخاطر إثر سلسلة التعريفات الجمركية الأخيرة التي أعلنتها الولايات المتحدة والتدابير المضادة من بلدان أخرى. وتأتي هذه التعريفات في سياق ارتفاع مستويات الدين في كثير من البلدان والضغوط المفروضة بالفعل على الموارد العامة التي سيكون عليها أيضا، في حالات عديدة، احتواء نفقات إضافية جديدة ودائمة، مثل نفقات الدفاع. ويزداد المشهد المالي تعقيدا بفعل ارتفاع العائدات في الاقتصادات الرئيسية واتساع فروق العائد في الأسواق الصاعدة.
وتشير توقعاتنا إلى ارتفاع الدين العام العالمي بمقدار 2,8 نقطة مئوية خلال العام الجاري – أي ما يزيد عن ضعف التقديرات لعام 2024 – ما سيدفع مستويات الدين إلى أكثر من 95% من إجمالي الناتج المحلي. ويرجح استمرار هذا الاتجاه التصاعدي، ليقترب الدين العام من 100% من إجمالي الناتج المحلي مع نهاية العقد الجاري، متجاوزا مستوياته خلال الجائحة.
وفي هذه البيئة، تواجه المالية العامة مفاضلات صعبة: الموازنة بين خفض الدين، وبناء الاحتياطيات الوقائية لمواجهة عدم اليقين، وتلبية احتياجات الإنفاق الملحة وسط تراجع آفاق النمو وارتفاع تكلفة التمويل. وسيكون من الضروري التغلب على هذه التعقيدات لدعم الاستقرار والنمو.
خطر ارتفاع الدين
كانت مخاطر الدين مرتفعة بالفعل. فحسب مستويات الدين المعرض للخطر في تقرير الراصد المالي، والتي تستند إلى البيانات المتاحة حتى ديسمبر 2024، يمكن أن يصل الدين العام العالمي في سيناريو معاكس حاد إلى 117% من إجمالي الناتج المحلي العالمي بحلول 2027. ويمثل ذلك المستوى الأعلى على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، ويتجاوز التوقعات المرجعية بنحو 20 نقطة مئوية.
وتتصاعد مجددا المخاطر المحيطة بآفاق المالية العامة. فقد تتجاوز مستويات الدين تقديرات الدين المعرض للخطر أيضا حال تراجع الإيرادات والناتج الاقتصادي بحدة عن التنبؤات الحالية بسبب زيادة التعريفات وضعف آفاق النمو. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تصاعد عدم اليقين بشأن الأوضاع الجغرافية-الاقتصادية إلى تفاقم مخاطر الدين، وبالتالي إلى ارتفاع الدين العام من خلال زيادة الإنفاق، في قطاع الدفاع خصوصا.
وقد تنشأ عن تشديد الأوضاع المالية وزيادة تقلباتها في الولايات المتحدة آثار متتابعة على الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، ما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة التمويل. ولذلك تأثير هائل في أسعار السلع الأساسية، حيث يؤدي إلى تراجع الأسعار وزيادة التقلبات السعرية. والتحسن المحدود في المالية العامة قد يفاقم المخاطر الناجمة عن تزايد أسعار الفائدة، ولا سيما في ظل الاحتياجات التمويلية الهائلة في عديد من البلدان.
مفاضلات معقدة على مستوى السياسات
في ظل عدم اليقين والتغيرات السريعة حول العالم، يتعين على البلدان بداية ترتيب أوضاعها المالية الداخلية. ويعني ذلك تنفيذ سياسات احترازية ضمن أطر مالية قوية لكسب ثقة المواطنين والمساعدة على الحد من عدم اليقين.
وعلى سياسة المالية العامة إيلاء الأولوية لخفض الدين العام وبناء الاحتياطيات الوقائية وتعزيزها لمعالجة ضغوط الإنفاق والتصدي للصدمات الاقتصادية. ويعني ذلك إيجاد التوازن المناسب بين التصحيح ودعم النمو الاقتصادي، حسب ظروف كل بلد وموارده المتاحة وأوضاعه الاقتصادية ككل.
وينبغي للبلدان التي يتوافر لها حيز محدود في موازناتها الحكومية تنفيذ خطط تدريجية تتسم بالمصداقية لضبط أوضاعها المالية والاستخدام الفعال لأدوات الضبط التلقائي، مثل إعانات البطالة. وأي نفقات جديدة ينبغي تعويضها بخفض الإنفاق في قطاعات أخرى أو زيادة الإيرادات. وفي البلدان التي تتمتع بمرونة مالية أكبر، من المهم استخدام الموارد المتاحة بحكمة في إطار خطط واضحة متوسطة الأجل.
وبوجه أعم، على الاقتصادات المتقدمة التصدي للقضايا المرتبطة بشيخوخة السكان من خلال إعادة ترتيب أولويات الإنفاق، ودفع إصلاحات المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية، وتوسيع القاعدة الضريبية. وفي الاقتصادات الصاعدة والنامية، يتعين تطوير النظام الضريبي بسبب تدني الإيرادات في الماضي.
وبينما تعيد التغيرات الهائلة في السياسات وزيادة عدم اليقين تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي، تتدهور آفاق المالية العامة. ولاجتياز هذه التحديات بفاعلية، ينبغي للحكومات التركيز على كسب ثقة شعوبها، وضمان العدالة الضريبية، وإدارة الموارد بحكمة. ويمكنها بذلك تعزيز قدرتها على الصمود وتشجيع النمو المستدام في أوقات عدم اليقين.