أهل مكة أدرى بشعابها
<a href="mailto:[email protected]">f.albuainain@hotmail.com</a>
أعتقد أننا، متبني فكرة المؤامرة وأنا، لم نكن مقنعين بما فيه الكفاية عندما طالبنا مرارا وتكرارا بأخذ الحيطة والحذر من بعض توصيات المنظمات الدولية التي أصبحت كالدواء الفاسد الذي يفتك في جسد المريض حتى يسكنه التراب. فمَن نكون نحن حتى نتجرأ على نقد المنظمات الغربية العريقة؟! أو التشكيك في أهدافها الإصلاحية التي تحاول تطبيقها على دولنا النامية. أتحدث بصفة العموم، ولا أحدد منظمة بعينها، على أساس أنها متشابهة الأهداف وإن اختلفت في تخصصاتها ونطاقات أعمالها. فأنا مازلت أعتقد أن المنظمات الدولية، وإن رفعت راية إصلاح ودعم دول العالم النامي، لا تعدو أن تكون أدوات في أيدي الغرب، تسيرها الأيديولوجيات والمصالح، وتوجه من قبل الدول القوية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
فعلى سبيل المثال، تقف هيئة الأمم المتحدة عاجزة أمام القمع العنصري، وعمليات الاحتلال والتدمير التي تمارسها إسرائيل ضد المستضعفين الفلسطينيين ثم تهب لنصرة جندي إسرائيلي مختطف فتقيم الدنيا ولا تقعدها.
تنتصر المنظمات الدولية لصنم بوذا في أفغانستان، إلا أنها تقف صامتة أمام القتل والتدمير الذي يُمارس على نطاق واسع في العراق وفلسطين وأفغانستان بقيادة الأمريكيين، وكأنها تعترف بحقوق الحجر وتتناسى حقوق البشر. تطالب بحرية الأديان، وتغض الطرف عن العنصرية البغيضة التي تمارس ضد الإسلام والمسلمين. تنادي بحقوق الإنسان فتوجه اللوم للسعوديين على تحكيم شرع الله في المجرمين، وتتناسى الانتهاكات الدولية والأخلاقية التي يمارسها الأمريكيون على سجناء جوانتنامو العزل. تنادي بحقوق المرأة، ولا تتدخل من أجل إيقاف عمليات المتاجرة بالنساء التي تُمارس على نطاقات واسعة في معظم الدول الأوروبية. فتيات لا تتعدى أعمارهن السادسة عشرة يختطفون من دولهم الشرقية، والإفريقية ويرغمون على ممارسة البغاء قسرا بعد أن تتلف وثائقهن الرسمية، فيعيشون في ضياع دون أن تتدخل المنظمات الدولية لنصرتهن ورفع الظلم عنهن.
كثيرة هي الأحداث والقرائن التي تفضح تصرفات المنظمات الدولية في إفريقيا، فلسطين، العراق، أفغانستان وبعض الدول الآسيوية، وتقف شاهدة على التصرفات الخاطئة التي تُمارس ضد البشرية، وضد الدول النامية والفقيرة على وجه التحديد. إلا أننا نتجاوزها إلى صلب الموضوع الاقتصادي الذي يفترض أن تتحدث عنه هذه المقالة، ولعله يضيع بين هموم السياسة والإحساس بالظلم المزدوج من المنظمات الدولية تارة، ومن إخواننا المنظرين تارة أخرى، والله المستعان.
أخيرا، جاءت النصرة من بلاد الغرب، بعد أن شهد شاهد من أهلهم على الظلم الفاضح الذي تمارسه المؤسسات الاقتصادية الدولية تجاه الدول النامية وعلى رأسها "صندوق النقد الدولي". فقد اتهم الخبير الأمريكي جوزيف ستجليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، المؤسسات الاقتصادية الدولية بأنها تمارس "نفاقا يزيد الأغنياء ثراء والفقراء فقرا". انتقادات ستجيلتز الحادة بثتها وكالة رويترز للأنباء نقلا عن كتابه "ضحايا العولمة"، ونشرتها "الاقتصادية" في صفحتها الأولى تأكيدا لأهمية الخبر.
ويرى السيد ستجيلتز أن "صندوق النقد الدولي، على سبيل المثال، ينتهج سياسة تحركها الأيديولوجية والاقتصاد "الرديء". ويضيف، "تأكدت أن القرارات تتخذ غالبا على أسس أيديولوجية وسياسية، إذ يصبح الجامعيون في البنك الدولي عندما يضعون التوصيات مسيسين ويلوون الحقائق لتتناسب مع أفكار المسؤولين".
ويوجه السيد ستجيلتز اتهامه المباشر للولايات المتحدة الأمريكية، فيقول إنها "في مقدمة المذنبين وكانت هذه المسألة تحز في نفسي. وعندما كنت رئيسا لمجلس المستشارين الاقتصاديين حاربت بشدة ضد هذا النفاق".
يمكن أن نثبت ما ذهب إليه السيد جوزيف ستجليتز دون عناء، بل قد فعلنا ذلك من قبل مرارا وتكرارا، ما جعلنا تحت طائلة الاتهامات، إلا أننا نكتفي بتسجيل موقف البنك الدولي من عملية استغلال فوائض ميزانيات الدول النفطية في التنمية الداخلية كما جاء في تقرير رولا خلف الذي نشرته "الاقتصادية" نقلا عن "فاينانشيال تايمز"، والذي جاء فيه أن صندوق النقد الدولي لاحظ "أن معظم البلدان المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تضع ميزانيات معقولة، ومازالت تدخر في المتوسط ثلثي الزيادة المتأتية من إيرادات النفط منذ عام 2002، واشتكى الصندوق من أن هذا النهج الحذر يزيد من اختلال الموازين العالمية، واقترح أن بإمكان الدول المنتجة أن تفعل المزيد لجسر العجز في ميزانية الولايات المتحدة". ونقف عند هذا الحد فالتقرير مليء بالمعلومات القيمة، والإشادة بما تقوم به دول المنطقة من جهود مميزة في التنمية، إلا أنها جهود منقوصة، كما يعتقدون، لأنها تزيد "من اختلال الموازين العالمية"، لذا فهم يقترحون على الدول المنتجة للنفط "أن تفعل المزيد لجسر العجز في ميزانية الولايات المتحدة"، وهذا هو بيت القصيد. ونحن بدورنا نتساءل، ولماذا الولايات المتحدة على وجه الخصوص؟ وأين باقي دول العالم الصناعي؟ وهل هناك علاقة مباشرة بين محتوى التقرير، وبين الأوامر الأمريكية النافذة التي لا تتوقف عند حد معين، حتى خيل للإنسان البسيط بأن المؤسسات الدولية ما هي إلا إدارات تابعة للوزارات الأمريكية؟.
الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد للدول النامية أن تستفيد من ثرواتها النفطية، بل تصر على إعادة تدوير جل إيراداتها في الاقتصاد الأمريكي من أجل المساهمة في سد العجز الأمريكي المتضخم الناجم عن تمويل العمليات العسكرية التي تتخذ من الدول الإسلامية مسرحا لها، لا تقول مثل هذا صراحة، بل تترك الأمر برمته للمؤسسات الدولية التي لا تتردد في تسويق الأفكار والرغبات الأمريكية على أعضائها البسطاء.
مثل هذه التقارير تعري النوايا الأمريكية، وتضع أكثر من علامة استفهام حول الأهداف التنموية والإصلاحية التي تتشدق بها المؤسسات الدولية ما يجعلنا أكثر تعلقا بمقولة "أهل مكة أدرى بشعابها" فنمد يدنا لخبرائنا المنصحين؛ وأن نكون أكثر حذرا في تبني بعض دراسات المؤسسات الدولية التي دأبت على خلط السم في العسل، ونحن عنهم غافلون.
يجب أن ننظر إلى ملاحظات صندوق النقد الدولي المتحفظة حيال إعادة استثمار إيرادات النفط داخليا على أنها إشادة بالحكومات التي آثرت تنمية أوطانها، وسعت في رفاهية مواطنيها على تنمية الاقتصاد الأمريكي. إيرادات النفط ربما لا تدوم، ولا نعلم ما يخبئ لنا القدر، لذا فالحكمة تفرض علينا تحقيق المنفعة القصوى من إيرادات النفط وبناء قاعدة صناعية تسهم في تنمية الوطن وتنويع مصادر الدخل كي نضمن، بإذن الله تعالى، مستقبلا مشرقا للأجيال القادمة. الاستثمار في قطاعات الصناعة والصحة والتعليم والبنية التحتية سيساعد كثيرا في بناء اقتصاد قوي، وسيسهم في إرساء قاعدة صلبة للتنمية المستدامة، وسيحمي البلاد والعباد من كيد الكائدين.
هكذا يفكر الغرب، فكيف نفكر نحن؟ وماذا أعددنا من خطط مضادة لخططهم التدميرية المغلفة بأقمشة الحرير؟. " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".