آثار عمليات غسيل الأموال على الاقتصاد (2 من 2)

[email protected]

كنا قد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن غسيل الأموال كمصطلح وتعرفنا على بعض جوانبه التحضيرية ومصادره، وذكرنا بعض الجوانب التي تتم من أجلها عملية غسيل الأموال.
ويبقى الجزء الأهم من هذا الطرح وهو كيف تغسل الأموال؟ وكيف تؤثر تلك العملية على الاقتصاد والمجتمع؟
نظرياً، تمر عملية غسيل الأموال بمراحل متعددة ومتغيرة حسب مصادر الأموال القذرة وعلى حسب كمياتها وعلى حسب توقيتها. ولخطورة عمليات غسيل الأموال فإنها تأخذ فترة من الزمن حتى تعود لأصحابها على شكل مبالغ قانونية متداولة بشكل طبيعي لأنها تمر بمراحل عديدة لإبعاد الشبهات وضمان النتيجة. نذكر منها باختصار المراحل الرئيسية لعمليات غسيل الأموال.
تبدأ العملية بمرحلة الإيداع Placement stageأو ما يسمى المرحلة الأولية وهي الفترة اللاحقة لتحصيل الأموال القذرة الناتجة عن العمليات غير القانونية التي ذكرناها سابقا، حيث يتم خلال هذه المرحلة تجزئة النقد الكبير إلى مبالغ صغيرة عن طريق تحويلها إلى حسابات بنكية قائمة أو بشراء شيكات سياحية وأوراق مالية كالأسهم أو السندات، وقد تصل إلى مرحلة استخدام حسابات مصرفية لشركات قائمة وتضيع بهذه الطريقة خطورة حيازة المبلغ الكبير وإزالة الشبهات عنه عن طريق هذا التوزيع الذي غالبا ما يكون قائما على دراسة مسبقة يقوم بها غاسلو الأموال، وكذلك يدخل هنا العديد من العمليات الاحتيالية والفساد الإداري التي يقوم بها أصحاب النفوذ سواء كانت شركات أو بنوكا محلية.
الرحلة الثانية هي مرحلة التوزيع Layering stage بعد أن يتم توزيع المبالغ إلى أشكال مختلفة من الاستثمار وتقسيمها، فإن هذه المبالغ يعاد تجميعها من خلال عمليات بنكية إلكترونية أو شخصية في أماكن حول العالم توفر خصوصية وسرية للعمليات المالية وتوفر حماية كبيرة لروادها مثل ما يسمى اللجنة الضريبية وكذلك بنوك الأوفشور Offshore والشركات الوهمية التي تمثلها أماكن حول العالم مثل جزر الكاريبي. ولذلك فلا غرابة أن ترى بعض تلك الجزر الصغيرة التي تعتبر من الجنان الضريبية حول العالم ولديها أعداد هائلة من البنوك وهذا هو عصب اقتصادها، فعلى سبيل المثال يوجد في جزيرة ناورو Nauru في المحيط الهادي والتي لا تتجاوز مساحتها 21 كيلو مترا مربعا لديها أكثر من أربعة آلاف بنك مسجل.
وأخيرا المرحلة النهائية للعملية وهي مرحلة الدمج Integration stage حيث يتم خلال هذه المرحلة إعادة تجميع المبالغ التي ذكرناها في المرحلة السابقة على شكل استثمارات يعاد إدخالها إلى الاقتصاد العالمي عن طريق تأسيس شركات ذات طابع أجنبي أو شراء العقارات أو المضاربة في أسواق الأسهم أو الدخول في استثمارات ذات قيمة عالية أو شراء المجوهرات وغير ذلك من الأعمال التجارية ذات القيمة الاستثمارية الكبيرة. وغالبا ما تحدث هذه العمليات في دول العالم الثالث التي تفتقر إلى أنظمة رقابية وقانونية قوية، وكذلك حاجتها إلى دخول سيولة أجنبية تساعد اقتصادات تلك الدول التي غالبا تعاني من مشاكل اقتصادية. وبذلك تكون الأموال القذرة التي تم تحصيلها على حساب صحة المجتمعات وعلى حساب طاقتها، اختفت بالفعل وتم تحويلها إلى أموال نظامية يسمى أصحابها أهل الخير لما تمثله مساهماتهم الكبيرة في المجتمع!!
ومع إيماني بخطر الآثار السلبية التي تسببها عملية غسيل الأموال على المجتمع من ناحية التشجيع على انتشار الجريمة والفساد الإداري والابتعاد السلبي عن القانون وقتل روح المبادرة لدى أفراد المجتمع والتشجيع على إشاعة جميع الأمور المتعلقة بالأعمال الإجرامية التي تحتاج إلى عمليات غسيل الأموال. ولا شك أن هذه العوامل تؤثر في الاستقرار الأمني والاجتماعي بشكل يؤثر في الاقتصاد.
إلا أن آثارها الوخيمة على الاقتصاد تحتاج إلى مجلدات من التحليل، ولكن في هذا الطرح سأختصرها على شكل نقاط رئيسية، حيث إن كثرة عمليات غسيل الأموال تتسبب في خلق الاقتصاد الخفي أو الاقتصادات السوداء أو اقتصادات الظل. وهي ما يعني إنتاج اقتصاد وعرض للنقود وهمي لا يعكس حقيقة الاقتصاد، مما يقود إلى تضخم في الأسعار وهشاشة في النمو الاقتصادي، يهددان بانهيار الاقتصاد متى ما تم الانتهاء من تلك العمليات. فعلى سبيل المثال وجود عمليات غسيل الأموال من خلال الأسواق المالية يقود إلى اضطراب أسواق الأوراق المالية وأسعار صرف العملة وأسعار الأسهم.. وذلك بالنظر إلى أن المعاملات التي تتم بيعاً وشراءً لا علاقة لها بمبدأ العرض والطلب أو الجدوى الاقتصادية واقتصاد السوق والقيمة الحقيقية أو الفعلية للأسهم والسندات، إنما هي مجرد عمليات تمويه لغسيل الأموال وتبييضها ومن ثم سحبها خارج الاقتصاد، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في اقتصادات الدول المحتضنة لمثل هذه الأعمال. كذلك أن عمليات غسيل الأموال قد تسهم في تباطؤ النمو الاقتصادي الحقيقي وتجلب ما أستطيع تسميته الإحباط الاقتصادي لقطاع الأعمال، بشكل يؤثر بشكل غير مباشر على نمو القطاع الخاص في الاقتصاد من خلال مقارنة العائد على الاستثمار في الأعمال الإجرامية ونسبة المخاطرة فيها. كذلك دخول تلك الأموال على شكل استثمار أجنبي يعطي دلالات وهمية على ارتفاع الناتج المحلي وكذلك على متانة الاقتصاد، وهذه المتانة لا تلبث أن تنتهي بمجرد انتهاء عمليات الغسيل بالكامل وذلك عن طريق استراتيجية خروج معينة من هذا الاستثمار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي