أسواق الإسكان والسياسة النقدية
أطلقت البنوك المركزية في أواخر 2021 أكبر سلسلة ارتفاعات كبيرة في أسعار الفائدة وأكثرها تنسيقا على مدى 4 عقود لاحتواء تفشي التضخم في أعقاب الجائحة. وتوقع كثير من خبراء الاقتصاد تباطؤا عالميا حادا في النشاط الاقتصادي، إلا أن عددا كبيرا من الاقتصادات أظهر تماسكا بشكل جيد نسبيا، ولم تحدث حالات تباطؤ إلا في بعض الاقتصادات.
والسؤال هو: لماذا شعرت بعض البلدان، دون سواها، بوطأة ارتفاع أسعار الفائدة؟ يأتي شرح هذا الأمر في الوقت المناسب تماما حيث يعمل كثير من البنوك المركزية حاليا على خفض أسعار الفائدة. ويوضح البحث الذي أجريناه والذي يرد في أحد فصول عدد إبريل 2024 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي أن سمات الإسكان والقروض العقارية، التي تتباين إلى حد كبير بين البلدان وطرأت عليها تغيرات في السنوات الأخيرة، هي أحد الأسباب الرئيسية لهذا الأمر.
ولا يزال الإسكان أحد العوامل البارزة الدافعة للصدمات الاقتصادية، وهو ما يُعزى إلى حد كبير إلى دوره المحوري في الميزانيات العمومية للقطاع الخاص. فالقروض العقارية هي غالبا أكبر التزام على الأسر المعيشية، ويمثل الإسكان أهم أشكال ثروتها. ويسهم قطاع العقارات أيضا بنسبة كبيرة في الاستهلاك، والاستثمار، والوظائف، وأسعار السلع الاستهلاكية في معظم الاقتصادات. وغالبا ما تتعرض البنوك وشركات الوساطة المالية بدرجة كبيرة لمخاطر قطاع الإسكان، ما يجعلها مكوِّنا أساسيا في انتقال أثر السياسة النقدية.
منذ الأزمة المالية العالمية، أحرز خبراء الاقتصاد تقدما كبيرا في شرح طريقة عمل السياسة النقدية عبر أسواق الإسكان، وبشكل أدق في تحديد قنوات انتقال أثر السياسة النقدية التي تعمل من خلال أسواق الإسكان والقروض العقارية. ونحن نلخص بعض هذه القنوات فيما يلي، مع التركيز على القنوات ذات الصلة بطلب قطاع الأسر.
أولا، التغيرات التي تطرأ على أسعار الفائدة الأساسية تؤثر تأثيرا مباشرا في مدفوعات القروض العقارية الشهرية التي يسددها أصحاب المساكن الذين حصلوا على قروض عقارية بأسعار فائدة متغيرة. ووفقا لبحث أجراه ماركو دي ماجيو وآخرون، ترتفع المدفوعات أيضا حينما ترتفع أسعار الفائدة الأساسية، ما يقلص الدخل المتاح، وأيضا الاستهلاك في بعض الأحيان، من خلال ما يُشار إليه عادة باسم "قناة التدفق النقدي".
ثانيا، أسعار المساكن حساسة للغاية للتغيرات في أسعار الفائدة، التي تحدث من خلال تطور المعدل الأدنى للعائد المقبول، وبسبب التوقعات بشأن العائدات المستقبلية. ويمكن لقناة التوقعات هذه، التي يُشار إليها باسم قناة علاوة المخاطر، أن تؤثر في مقدار رغبة المشترين في الاقتراض ومدة الاقتراض، وهو ما يؤثر بدوره في أسعار المساكن وشروط الائتمان.
ثالثا، حينما تتذبذب أسعار العقارات بسبب تغير أسعار الفائدة الأساسية، فإن التأثيرات في الثروة يمكن أن تؤثر في استهلاك أصحاب المساكن. وإضافة إلى هذا، يمكن لأصحاب المساكن في كثير من البلدان استخدام مساكنهم كضمان عقاري للاقتراض وتمويل الاستهلاك. وحين تتذبذب أسعار العقارات، يتذبذب معها حجم القروض المضمونة بأصول، ويحذو الاستهلاك حذوها، وهو ما يوضحه العمل البحثي لعاطف ميان وأمير صوفي.
تعتمد قنوات انتقال أثر السياسة النقدية هذه على السمات الأساسية لأسواق الإسكان والقروض العقارية. على سبيل المثال، تتحدد القوة النسبية لقناة التدفق النقدي حسب نسبة القروض العقارية بسعر فائدة ثابت - الذي، بطبيعة الحال، لا يُعَدَّل لمراعاة التغيرات في أسعار الفائدة الأساسية - من بين جميع القروض العقارية القائمة. ويعني وجود مزيد من القروض بسعر فائدة ثابت شعور عدد أقل من المقترضين بوطأة ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية، أو تحقيق استفادة من تراجعها.
ويوضح بحثُنا أن بعض السمات الأساسية تتباين تباينا كبيرا من بلد إلى آخر. على سبيل المثال، يمكن أن تتفاوت نسبة القروض العقارية القائمة بأسعار فائدة ثابتة نحو الصفر في جنوب إفريقيا إلى أكثر من 95% في المكسيك والولايات المتحدة.
فهل يمكن لهذه التفاوتات أن تفسر سبب اختلاف درجة انتقال أثر السياسة النقدية على مستوى البلدان؟ إننا نستنتج أن للسياسة النقدية آثارا أكبر على النشاط الاقتصادي في البلدان التي تنخفض فيها نسبة القروض العقارية بسعر فائدة ثابت. وفي البلدان التي لديها نسبة كبيرة من القروض العقارية بسعر فائدة ثابت، ستؤثر التغيرات التي تطرأ على أسعار الفائدة الأساسية على المدفوعات الشهرية لعدد أقل من الأسر المعيشية، وعادة ما سيكون الاستهلاك الكلي أقل تأثرا.
وبالمثل، نشهد آثارا أقوى للسياسة النقدية في بلدان يزيد فيها عدد الأسر المعيشية التي تتحمل ديونا وكما أكبر من الاقتراض، حيث سيتعرض عدد أكبر من هذه الأسر لأخطار التغيرات في أسعار الفائدة على القروض العقارية.