هاجس "الحقيقة" في المنتديات وليس في المقالات!

[email protected]

هناك مقولة مأثورة أن من يتعامل مع الفكر والحرف والكلمة أشبه بمن يملك قنبلة يمكنها أن تنفجر معه في أي لحظة, خصوصاً إذا كان يعرف الحقيقة ويود إيصالها بطريقة سلسة دون أن تتسبب في إثارة الفزع أو الخوف!
ويبقى التفاعل الصادق مع (الحدث) هو المحك الرئيسي للكاتب، وتطرح في أمرين لا ثالث لهما، أولهما تسجيل ملاحظات الكاتب, وثانيهما مشاركة من حوله بخواطره ومعلوماته ثم يطرحها في مقال ويرسلها في العادة إلى صفحة الرأي حتى تصبح مشاركته تفاعلية مع المجتمع، أو أنه يتوسع في الطرح ويشارك بها في المنتديات مستخدماً اسمه الحقيقي أو اسما مستعارا، وهنا ينطلق بحرية دون ضوابط أو حدود، وكأنه يمارس نقداً ذاتياً حتى على نفسه!
والسؤال المطروح حالياً: لماذا أصبحت مساحة المنتديات الفكرية أكبر، على رغم من الانفتاح الإعلامي الذي تشهده الصحافة، ليس السعودية فحسب، بل في كل أرجاء الوطن العربي؟ وقبل أن أحاول تحليل تلك الظاهرة، سأضع القارئ، في ظروف ميلاد مقال لأصحاب الفكر، وهي صورة لربما تكون نمطية، لكنها هي الواقع نفسه.
في شكل عام، للكاتب في الغالب طقوس وعادات، منها ما يخص الموضوع من تحضير للمعلومات وقياس درجة المشكلة، إضافة إلى المشاركة الوجدانية مع أصحاب الرأي والفكر حول آليات الطرح، ومنها ما يخص الكاتب شخصياً من طقوس وجدانية، مثل ما يحصل معي، أقوم بتحضير كوب الشاي الأخضر وتشغيل جهاز الكمبيوتر، وإغلاق الجوال، ووضع لوحة عدم الإزعاج.
وبعد رشفتين من الشاي الساخن نبدأ رحلة المقال، وتبدأ الأفكار تتراقص طرباً للموضوع ويعزف على واقع المشكلة أجمل ألحان، وتتسابق الأصابع في تسجيل محاور الموضوع، ويبدأ العقل الباطن في تثبيت وقائع المرافعات والأدلة الدامغة، وعندما ينطلق الكاتب بسرعة جنونية، متجاوزا السرعة النظامية ويرغب في تجاوز (الإشارة حمراء), عندها يقف ويتذكر القاعدة النظامية التي تقول في السرعة الندامة، لذلك نقف عند هذا الحد ونقول (نقطة نظام) وللحرية حدود.
ونقول إن تفاعل الفكر بموضوعية مع الواقع, ينعكس على حدوث ما يشبه (العراك)، وهو أمر طبيعي، وسببه توقعات ردود الفعل المتوقعة من المقال مع حدود الخطوط الحمراء، فكلما اقترب الكاتب من الطرح الموضوعي للمقال تصبح (الحقيقة) أقرب إلى النار، فتعود الكلمات خطوات إلى الوراء خوفاً من أن تحرقها صدقها أو أفضل لكرامتها من أن يقتص منها رقيب الإعلام، وتراجع الكلمة الصادقة ليس لأنها ضعيفة أو أنها كانت ضعيفة، ولكنها أرادت أن تعيش على واقع الإعلام العربي وتقديراً للعرف والعادات وما تعارف عليه المجتمع من عدم تجاوز الخطوط الحمراء في الطرح والنقاش.
ومن المعلوم أنه ليست هناك تعليمات مكتوبة أو نظام واضح للكاتب في الإعلام المقروء، بقدر ما هناك (كرت أحمر) إن صح التعبير، وهو أمر يؤرق (الكاتب) خوفا من (الإيقاف الإجباري) من صفحة الرأي والرأي الآخر, وانتقاله إلى مقاعد الاحتياط في المنتديات، التي كثيراً ما خطرت على بال كل كاتب أثناء الكتابة في غفلة النشوة من الأصابع التي أصبحت القائد الحقيقي للمشاعر الصادقة, وإن كانت في الوقت نفسه قادرة على إنهاء صاحبها في معركة الفكر، وهنا يجب على كل عاقل أن يستيقظ من غفلته ليوقظ الأصابع فيسرعان لشطب أغلب ما كتب، وإعادة الخط الأحمر إلى مكانه معززاً مكرما.
بالنسبة لي شخصياً، في كل مرة أواعد نفسي وأقول، اليوم فقط! سوف أطلق العنان لأصابعي وأجعلها تخط عباراتها وتلون كلاماتها في المقال بكل الألوان المختلفة، إلى أن تجعلها (كقوس قزح) !! اليوم تحدثت مع أناملي بعد أن هرمت كتابة في مقالات ما بين الاقتصاد والقانون والتأريخ، حتى أصابها الوهن وظهرت عظامها بارزة, وأمست الأصابع عجوزا مع أنني في بداية الأربعين، ومن الواضح أنني في حاجة إلى 20 عاما حتى أتجاوز الستين عاماً من العمر، لكي تكتب أصابعي ما تريد، دون أن يراقب كلماتها عقلي المتوجس، أو أقضب حاجبا من هول ما أكتب, نعم... نعم, سوف أدع أصابعي تنطلق لأنها أكثر صدقاً، ولأنها ترفض الخداع والرياء وطاقية الإخفاء والتستر على الأقوياء.
ثم أقف وأفكر، وأستدرك الموضوع مرة أخرى وأتأكد، من المقولة الدارجة إن كانت صحيحة، بأن الكاتب يصبح أكثر صدقاً مع مرور الزمن، فكلما ازدادت معلوماته بسبب الخبرة والاحتكاك، ازدادت جرأته في كشف أغوار الحقيقة وشحَّ تيار الخوف، واستطاع أن يسقط كل الحواجز الهلامية حتى تلامس مقالته كل الأفكار الإنسانية المعقدة, لأن المجتمع أصبح يرقب الحقيقة أينما كانت، يقرؤونها بتجرد ويحكمون عليها بصدقٍ أكثر، ويقدرون جرأتها ويقولون (الحق يعلو ولا يعلى عليه).
ختاما ًبات من الواضح، أن الحقيقة انتصرت داخل شبكة الإنترنت من خلال منتدياتها المختلفة علي الإعلام المقروء أو المسموع، وأصبح كل كاتب يغرد بكلماته فرحاً وحبوراًَ، لأن أول جملة يخطها على صفحة المنتدى (ما أجمل شبكة الإنترنت), لأنها تعطي للإنسان حريةً أكبر وصدقاً أعظم وخوفاً أقل، جاء الوقت الذي لا يخاف الناس من كلامهم، حتى وإن كانت تفسيراتهم لواقع الحياة ضحلة، وأدمغتهم في الطرح ضيقة، وانفعالاتهم متناثرة بسبب عواطفهم المكبوتة، كل ذلك مقبول ومقبول في المنتديات فقط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي