حرية الرأي المفترى عليها
بصرف النظر عما إذا كان الكاتب البريطاني الجنسية الهندي الأصل "سلمان رشدي" صاحب الرواية سيئة الصيت "الآيات الشيطانية" يستحق أن يُكرم بلقب فارس من قبل ملكة بريطانيا أم لا يستحق، فإن تكريم شخصية مثيرة للجدل مثله في هذا التوقيت وبناء على خلفية ردة الفعل الإسلامية على ما تضمنته روايته تلك من إساءات مقصودة وبذيئة ومتعمدة لرسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام ومنها فتوى دينية إيرانية بإهدار دمه، تثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب العديدة، متساءلة عن المقصد والمعنى والمغزي من اختيار هذا التوقيت لتكريم شخص مثل هذا بالتحديد..! فرشدي هذا لا تعرف له إسهامات بارزة ومهمة في المجال الفكري والأدبي قبل وبعد صدور آياته الشيطانية إلا كتابا أو كتابين لم يثيرا الانتباه في بريطانيا، ولا في غيرها بالرغم من حصول أحدهما على جائزة أدبية حصل عليها على خلفية روايته السابقة "الآيات الشيطانية" وليس لقيمتها الأدبية التي ظل بعدها غائبا عن الساحة إلى حد أنه نسي تماما لقلة إنتاجه وقيمته الأدبية معا ولعدم وجوده وحضوره في الساحة الثقافية.
حين يستدعى مثل "سلمان رشدي" وفي هذا الوقت وينفض عنه الغبار ويزاح عنه ستار النسيان ليحظى بتكريم من ملكة بريطانيا بمنحه لقب فارس، فهذا يعني أن المقصود ليس تكريما لشخصه ولا تقديرا لإنتاجه الأدبي، بل المقصود هو استثارة المسلمين بهدف إثارة أزمة مع العالم الإسلامي سيصور فيها المسلمون بأنهم ضد حرية الرأي والتعبير، وما يؤكد ذلك أن قرار منح رشدي هذا اللقب جاء بترشيح من الحكومة البريطانية، بما يعني أنه قرار سياسي بالدرجة الأولى وليس بناء على قيمة أدبية وفكرية لرشدي أسهمت مثلا في جهد إنساني للتقريب ما بين المسلمين والغرب، بل على العكس من ذلك فروايته المعروفة أثارت تأزما في العلاقة ما بينهما وما زالت، بمعنى أن إسهامه كان سلبيا وليس إيجابيا، فلماذا أقدمت الحكومة البريطانية على هذه الخطوة مع معرفتها المسبقة، التي لا يشك فيها، بالتداعيات التي يمكن أن تثيرها في طول وعرض العالم الإسلامي، وأثرها السلبي في الجالية الإسلامية في بريطانيا وهي جالية كبيرة ومهمة؟
على خلفية ذلك لا بد أن نستدعي التأثير الصهيوني الممزوج بالخبث الإنجليزي المعروف ودوره في خلق هذه الأزمة الجديدة القديمة لأغراض في نفس يعقوب، واستدعاء هذا التأثير الحقيقي وليس الافتراضي ليس له علاقة بنظرية المؤامرة بصورتها السلبية والمبالغ فيها، وعلينا هنا أن نتذكر الموقف القوي للأكاديميين البريطانيين في مقاطعة الجامعات والأكاديميين الإسرائيليين احتجاجا على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وما تركه من أثر سلبي في إسرائيل، والدور الصهيوني غير البعيد عن هذا الاختيار رمى لإثارة أزمة مع العالم الإسلامي ستؤدي إلى مواقف إسلامية محتدة كالعادة لإحراج أولئك الأكادميين البريطانيين.
أما بلير فقد هدف من ذلك إلى تسليم رئيس الوزراء القادم الحكومة بأزمة مع العالم الإسلامي وخصوصا إيران صاحبة الفتوى بإهدار دم رشدي.
الحجة التي باتت غير مقنعة في تبرير الاختفاء بكل ما يسيء للإسلام والمسلمين وهي حرية التعبير المكفولة في الغرب منذ قرنين من الزمن، هي حجة واهية ليس لها سند من واقع ممارستها في الغرب بالذات، فالحرية نسبية خصوصا فيما يمس مقدسات وعقائد الشعوب، وهي تمارس فقط ضد الإسلام دون غيره في الغرب على وجه الخصوص، ففي الغرب يحتفون ويحمون ويلمعون كل ما يسيء له خصوصا من المارقين منه، بينما نجد هناك تحريما بالمس بكل ما له علاقة باليهود والصهيونية وصل إلى حد سن القوانين لمعاقبة كل من يتجرأ على ذلك، فكم من شخص ناقش بأسلوب علمي مثلا قضية المحرقة النازية لليهود وشكك في كثير من وقائعها فطورد وحوكم وأدين بحجة معاداة السامية التي جعلوها أكثر قدسية من الأديان والأنبياء ثمل المؤرخ البريطاني الشهير ديفيد أيرفنج وهو يهودي والذي أجبر على التراجع عن آرائه التي قالها فيما يخص الهولوكست، وكذلك المفكر الفرنسي المسلم صائب جارودي الذي جرجر للمحاكم الفرنسية على كتابه "الأساطير المؤسسة للصهيونية" فأين هي حرية التعبير التي يتشدقون بها صبح مساء؟
ما نريد تأكيده هنا هو أن هذا التكريم المفاجئ لشخص مثير للجدل مثل رشدي، ليس بريئا ولا عفويا، بل هو صورة من صور فن إثارة الأزمات التي يتقنها الصهاينة والخبث الإنجليزي المعروف، وعلينا أن نحتج ونعترض ولكن دون أن نثير ضجيجا لا طائل من ورائه يخدم من سعى خلف إثارة هذه الأزمة، وأن نسعى لإشراك القوى الفاعلة والمتعلقة مثل الأكاديميين البريطانيين في الاعتراض حتى لا يعد اعتراضنا تعصبا دينيا فقط.