كفاءة الإدارة الاقتصادية تتجلى بتدخلها المناسب

[email protected]

التدخل السريع من قبل البنوك المركزية العالمية لضخ كميات هائلة من السيولة في أسواق المال العالمية، ثم قرار البنك المركزي الأمريكي الجمعة الماضي تخفيض سعر الفائدة بنصف نقطة مئوية، في تراجع مفاجئ عن سياسته السابقة الهادفة إلى كبح جماح التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة، يظهران المرونة التي يجب أن تتحلى بها الأجهزة المسؤولة عن إدارة الاقتصاد لتكون قادرة على تجنيب اقتصادات بلدانها الأزمات غير الضرورية والاختلالات المبالغ فيها التي يمكن تفاديها من خلال تدخل سريع مناسب. وإن هذا التدخل لا يتعارض مطلقا مع مبدأي الحرية الاقتصادية وعدم التدخل في الأسواق، ولو أن البنك المركزي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي لم يتدخلا وتركا الأسواق المالية لمصيرها المحتوم، لتهاوت تلك الأسواق بصورة ربما تؤدي إلى انهيار شامل للنظام المالي العالمي، ولربما عانى الاقتصاد العالمي كسادا هائلا.
وعلينا أن نقارن هذا الموقف الإيجابي وهذا التدخل السريع، بما مررنا به خلال الأعوام الأربعة الماضية، حيث بقيت أجهزتنا الاقتصادية مكتوفة الأيدي وتقف موقف المتفرج أمام اختلالات خطيرة كان يعانيها اقتصادنا، كان من الواضح أنها تتطلب تدخلا سريعا لتصحيحها، إلا أن ذلك لم يحدث، بل إن البعض فسر هذا الموقف السلبي، على أنه جزء من سياسة عدم التدخل في الأسواق واتباع دقيق لمبادئ الحرية الاقتصادية. فمعدلات السيولة المحلية ظلت سنوات تنمو بمعدلات عالية جدا تفوق كثيرا حاجة الاقتصاد المحلي، دون اتخاذ أي إجراء لكبح نموها، ما تسبب في تضخم غير مبرر في سوقنا المالية، وكان في استطاعتنا الحد من هذا النمو غير المنضبط في السيولة المحلية من خلال العديد من الإجراءات من بينها؛ مزيد من الاكتتابات الأولية أو بيع جزء من أسهم الدولة في الشركات القائمة، والحد من قدرة البنوك على الإقراض، بل حتى زيادة الاقتراض الحكومي من خلال إصدار مزيد من السندات الحكومية، حتى ولو لم تكن هناك حاجة مالية إليها، وإنما كجزء من سياسة نقدية تستهدف الحد من نمو السيولة المحلية.
لذا واصلت فقاعة سوق الأسهم تضخمها على مدى ما يزيد على عامين دون تدخل يجنب الاقتصاد أزمة قادمة مؤكدة ستترتب على انفجارها، وبدلا من إبداء مرونة في أهداف السياسة الاقتصادية، كما فعل البنك المركزي الأمريكي، بقراره عكس سياسته الهادفة إلى الحد من التضخم إلى سياسة مخالفة تماما تستهدف توفير مزيد من السيولة للبنوك، نجد أن وزارة المالية ومؤسسة النقد، ورغم النمو الهائل في معدلات السيولة المحلية، ظلتا متشبثتين بسياساتهما الهادفة إلى تخفيض الدّين العام من خلال الحد من الاقتراض المحلي وتصفية السندات الحكومية القائمة، ما وفر سيولة إضافية للبنوك شجعها على التوسع في الإقراض الشخصي وتمويل مضاربات سوق الأسهم. بينما كان من الواجب، وفي ظل معدلات نمو السيولة العالية، أن تصبح سياستنا الاقتصادية تستهدف الحد من نمو السيولة، من خلال إصدار مزيد من السندات الحكومية، خاصة أن الدين العام لا يقاس بقيمة السندات الحكومية المصدرة وإنما بصافي مديونية الدولة، ما يجعل إصدار مزيد من السندات لتحقيق أهداف نقدية لا يمثل نموا حقيقيا في الدين العام ولا يتعارض مطلقا مع السياسات الهادفة إلى تخفيضه، طالما أن فوائض الدولة واستثماراتها تنموان بما يفوق نمو قيمة السندات الحكومية.
وفي أسوق النقد بقينا نتفرج على سعر صرف الدولار الذي ترتبط به عملتنا وهو يتهاوى دون أن نحرك ساكنا، ما أفقد الريال السعودي ما يزيد على 30 في المائة من قيمته دون مبرر. فكل المؤشرات كانت تدل على أن الدولار سيواصل تراجعه، وما لم نبادر إلى فصل ارتباط الريال بالدولار وربطه بدلا من ذلك بسلة عملات، ستكون لهذا التراجع في سعر صرف الدولار انعكاسات سلبية على اقتصادنا, تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم وتدني مستويات المعيشة. أي أننا كنا في أمس الحاجة إلى تبني سياسات نقدية مرنة، قادرة على الاستجابة للتغيرات المتسارعة التي كانت تشهدها أسواق النقد العالمية، لا أن نتشبث بسياسة سعر صرف غير مناسبة واقعنا الاقتصادي يحتم تغييرها.
لكل ذلك، فقد زدنا من الصعوبات الاقتصادية التي نواجهها، في وقت ننعم فيه بطفرة شاملة يتوقع استمرارها سنوات عديدة، وكل ما كنا نحتاج إليه للمحافظة على مكتسباتنا هو امتلاك القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت الملائم وعلى تغيير أهداف سياساتنا الاقتصادية بما تمليه متطلبات المرحلة التي نمر بها، ولو لم يملك القائمون على البنوك المركزية العالمية هذه القدرات لقادوا العالم إلى كارثة اقتصادية، بدلا من إنقاذ الاقتصاد العالمي من أزمة كان من الممكن تفاقمها واتساعها لولا حسن تصرفهم وتدخلهم الإيجابي المناسب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي