توزيع الموارد ودور الترجمة في صناعة مشكلة

تعريف علم الاقتصاد يدور حول الكيفية والكفاءة في استخدام الموارد المحدودة لإنتاج السلع والخدمات، وتوزيعها بين مختلف الناس. وقد ناقشني أحدهم في هذا التعريف، بأن الإسلام قد وضع ضوابط وأحكاما في توزيع الموارد، ومن ثم يفترض أن تغنينا عما عند الآخرين.
لقد التبس على قائل الكلام السابق المعنى المقصود بتوزيع/ تخصيص الموارد في علم الاقتصاد، وهناك أكثر من سبب في وجود هذا الالتباس، والترجمة واحد منها. لفهم ما يقصد في علم الاقتصاد بكفاءة استخدام و/أو توزيع الموارد، يجدر بنا النظر أولا في مشكلة أو دقة الترجمة. ذلك لأنه لم يكن للتعبير "توزيع الموارد" معنى أو معان اصطلاحية في المجتمعات العربية طيلة القرون التي سبقت عصر الثورة الصناعية وتطور العلوم الحديثة، وإنما جاء التعبير ترجمة لتعبير أعجمي.
الكلمة التي أخذناها من مراجع علم الاقتصاد الأجنبية (الإنجليزية)، والتي ترجمت إلى توزيع هي allocation. ولكن هناك كلمة أخرى لا تستعمل (في كتب علم الاقتصاد الإنجليزية) للتعريف بعلم الاقتصاد، وهي distribution، ولكنها تترجم أيضا إلى الكلمة نفسها توزيع.
فسرت في قاموس أكسفورد المشهور Oxford Advanced Learner's Dictionary ، الطبعة السابعة (2005) كلمة allocation بأنها إعطاء مورد كالمال لغرض ما. بينما تعطي كلمة distribution معنى له علاقة بالعدالة.
وربما كان مصدر الإشكال أن التعريف لا يفيد شيئا في تعريف القارئ بمنهجية البحث الاقتصادي، ولا في طريقة علم الاقتصاد في تناول المسألة ومناقشتها وتحليلها، أو ما يسمى بالإنجليزية economic approach. وفهم المقصود بالتوزيع allocation متعلق بفهم منهج البحث في علم الاقتصاد.
يهتم علم الاقتصاد economics بتوصيف وفهم وتفسير السلوك الاقتصادي للإنسان، وطبيعة وتركيب الأمور والوقائع الاقتصادية (الناشئة من التعاملات بين الناس) والتوصل إلى النظريات المفسرة لذلك السلوك، أو كيفية حدوث تلك المسائل والأحداث. والمنهج المستخدم فيه هو المنهج العلمي أو التقريري (أقصد scientific) قدر الإمكان، وهناك الجانب الآخر ويعنى بالسياسات الاقتصادية، والتي تبنى ليس فقط على الجانب التقريري، بل أيضا على اعتبارات أخرى كثقافة المجتمع ورغباته وتفضيلات من يحكمونه ونحو ذلك.
فهم كيف يعمل الاقتصاد خطوة أساسية للتعرف على وتفسير توزيع الموارد. وهناك عدد لا نهائي من كيفيات وأنماط وأشكال توزيع الموارد، ويهتم علم الاقتصاد بالتعرف على المعايير التي ينبغي الأخذ بها للحصول على أفضل توزيع بين توزيعات لا نهائية العدد، وحتى لو كانت كلها مقبولة لذاتها شرعا و/أو قانونا. وتبعا لهذا الهدف، طور علماء الاقتصاد عددا كبيرا من أدوات التحليل الاقتصادي.
ولذا من المهم جدا أن يعرف أن ذلك التعريف أو المغزى الجامع لعلم الاقتصاد لا يقصد ولا يعني أساسا الأحكام الشرعية (أو القانونية) في الشؤون المالية والاقتصادية، كأحكام الزكاة والخراج والبيع والتجارة ونفقة الزوجة وأحكام التملك والميراث ومسؤولية الحكومات في حصول الناس على حاجاتهم الأساسية في حدود قدرات الدولة وغيرها كثير جدا. ولا شك أن للأحكام الشرعية (أو القانونية أو القيم السائدة) تأثيرا على توزيع الموارد بالمعنى المقصود في علم الاقتصاد، ولكنه أولا ليس القضية الأساسية، وثانيا لا يتطلب عادة عمقا فقهيا (أو قانونيا)، بل تكفي معرفة مبادئ بسيطة، مثل تحريم الغش عند مناقشة كفاءة تخصيص أو توزيع مورد ما (بالمعنى الاقتصادي)، أو عدد ساعات العمل الأسبوعية المحددة بالقانون عند مناقشة وتحليل سوق العمل أو تأثير توزيع موارد العمل ورأس المال على الإنتاج. ونهج معرفة المبادئ الفقهية (والقانونية) ذات الصلة بالتخصص ليس مقصورا على علم الاقتصاد، فالطبيب مثلا، ينبغي له أن يعرف أبسط المبادئ الشرعية (والقانونية) ذات العلاقة بمهنته، وهكذا.
ولعل في مشورة يوسف عليه السلام لملك مصر في توزيع/ تخصيص الموارد بعض التوضيح للمقصود من توزيع/ تخصيص الموارد في علم الاقتصاد.
فقد فسر يوسف الرؤيا، وأسند إليه الملك التنفيذ، وذكر السبب "إني حفيظ عليم"، وقد لفت انتباهي استخدام العلامة الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره تيسير الكريم الرحمن الكلمات الثلاث "عليم بكيفية التدبير". هذه الكيفية لا تكتسب من دراسة الفقه أو القانون.
هناك تفصيلات يبنى عليها توزيع الموارد، لم تذكر في سورة يوسف، فمثلا لم تذكر المعايير والاعتبارات المؤثرة في التوزيع، وكيفيته، آخذا في الحسبان قضايا كثيرة جدا تعكس تنوع الظروف والأحوال والاحتياجات بين الناس، وتقدير حاجة كل دورة زراعية من البذور، وكيفية تقدير ما ينبغي توزيعه حاضرا من القوت، وما ينبغي ادخاره، وما تأثير ذلك في الناس، وتأثرهم، كما لم تذكر السورة معالجة يوسف عليه السلام للمسائل المتعلقة بالتكاليف، وغيرها من المتعلقات التي تظهر مع التخطيط أو التنفيذ.
وقد أصبحت الأوضاع الاقتصادية للمجتمعات والأفراد في العصر الحاضر أعقد كثيرا من الأحوال الاقتصادية للمجتمعات وتضارب مصالحها قديما، بل حتى قبل عشرات السنين، وأصبح توزيع الموارد في العصر الحاضر خاضعا لمعايير كثيرة تكتسب بالتعلم الذي مصدره الكون، وأما الفقه (والقانون) فيعطي مبادئ مجملة (كالعدل)، مفروض مراعاتها في شؤون الحياة كلها من اقتصادية وتعليمية وصحية وبلدية ... إلخ. وبالله التوفيق،،،

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي