تخصيص أم تخبيص!
الرئيس التنفيذي لشركة المياه الوطنية الأستاذ لؤي بن أحمد المسلم عقب يوم الإثنين الماضي 27/4/2009 في صحيفة "الاقتصادية" على مقالي المنشور يوم الإثنين 13/4/2009 بعنوان "اطمئنوا.. فلن تخصص شركة المياه الوطنية" وذكر في تعقيبه أن مجلس الشورى لم يشر لا من قريب ولا بعيد إلى شركة المياه الوطنية أو حتى إلى استراتيجية خصخصة المياه في المملكة. وبما أنني لست عضوا في مجلس الشورى فإن ما يصلني عن مداولات المجلس هو ما تنشره وسائل الإعلام عن ذلك، ولا أعتقد أن هذه الوسائل تختلق مثل هذه الأخبار وليس هناك ما يبرر أن نفترض ذلك، وفي صحيفة "الرياض" العدد 14894 ليوم السبت 4/4/2009 نشر تقرير بعنوان "الشورى يحذر من طرح أسهم شركات المياه للمساهمة العامة" ورابطهhttp://www.alriyadh.com/2009/04/04/article420042.html، وقد جاء فيه التالي: إن تقرير لجنة المياه والمرافق والخدمات العامة في المجلس علل ذلك بمراعاة النظام الأساسي للحكم والذي نص في المادتين (14 و15) "على أنه لا يجوز منح امتياز مورد من موارد البلاد العامة إلا بموجب نظام"، وأن اللجنة أشارت إلى عدم وجود نظام للخصخصة، ورأت ضرورة التأكيد على ملكية المياه للدولة وبقاء مسؤولية توفير المياه للمواطنين عليها.
إلا أن كل ذلك في الحقيقة غير مهم، ولم يكن هذا هو موضوع أو فحوى المقال، وكان المقال منصباً على مناقشة ما إذا كانت الإجراءات المتخذة في الأجهزة الحكومية المختلفة التي لديها برامج تخصيص يخدم غرض التخصيص فعلاً أم أن ما يجري على أرض الواقع لا يخدم هذا الهدف بل حتى قد يتسبب في إعاقته تماما؟ وهذا ما أجزم به وأؤكده وهو ما لم يتطرق إليه الأستاذ المسلم في تعقيبه لا من قريب ولا بعيد، وكان بودي لو أنه قام بذلك وفسر ما أرى أنه وضع غريب عجيب لا يمكن تفسره. فكما أشرت في ذلك المقال وأؤكد عليه مرة أخرى اليوم، فإن ما يجري في أجهزتنا الحكومية التي يفترض أنها بدأت في اتخاذ خطوات نحو التخصيص هو في الواقع معاكس تماماً لما كان يجب عليها القيام به فعلاً، ويجعل إمكانية نجاح برنامج التخصيص في المملكة أمراً مستحيلاً، وهو مغاير تماماً للأسلوب الذي تم Hتباعه في كافة البلدان التي نجح فيها برنامج التخصيص، بالتالي فإننا لم نأخذ من فكرة التخصيص وبرنامجها إلا الاسم فقط أما تطبيقها ومتطلباتها فهي في واد وما نقوم به من إجراءات في واد آخر تماما.
فعندما بدأ مشروع تخصيص شركة الخطوط الجوية البريطانية على سبيل المثال لم ترفع رواتب الموظفين ولم يكن هناك انفجار هائل في تكاليفها التشغيلية، بل حدث العكس تماماً، حيث ركز في مرحلة ما قبل التخصيص التي استمرت سبع سنوات على تحسين الأداء المالي من خلال تخفيض التكاليف بشكل كبير، باعتبار أن استجابة الإيرادات تكون بطيئة مقارنة بالتخفيض الذي يمكن تحقيقه سريعاً في جانب التكاليف، ما يساعد على تحقيق قدر من التوازن المالي يؤهل الجهاز للتخصيص. لذا فقد كان من بين أبرز الإجراءات التي اتخذت خفض عدد العاملين في الشركة خلال هذه المرحلة ما يزيد على 56 ألف موظف إلى نحو 39 ألف موظف فقط، وأحكمت الرقابة المالية على الشركة وأجبرت على تطبيق معايير الربحية على كافة أنشطتها دون استثناء، وتم إلغاء كافة الأنشطة غير المربحة، لذا نجد أن هذه الشركة التي كانت على وشك إعلان إفلاسها في عام 1982، تنجح بعد عام واحد من تخصيصها الذي تم في عام 1987 في تحقيق أرباح بلغت نحو 1.2 مليار ريال. الأمر الذي يتضح معه أن مرحلة ما قبل التخصيص ليست مرحلة رفع التكاليف والمبالغة في المصروفات كما يحدث لدينا، وإنما هي مرحلة شد الحزام واختزال المصروفات وهذا ما لا يقوم به أي جهاز مرشح للتخصيص في المملكة، ولا أعلم من أين جاء هذا الفهم لمبدأ التخصيص، ولا كيف تولدت هذه القناعة بأن هذا هو الأسلوب المناسب اتباعه، رغم أنه يتنافى مع أبسط منطق ومبدأ مالي.
لذا فقط أصبحت مرحلة ما قبل التخصيص في المملكة خطرة جداً وهي مرحلة أقرب إلى الفوضى منها إلى التنظيم، فلا قواعد ولا أنظمة مُقيدة، وتدار وفق اجتهادات شخصية تتفادى اتخاذ القرارات الصعبة التي قد تواجه بمقاومة، من ثم فإن كل ما تقوم به هذه الأجهزة المرشحة للتخصيص هو زيادة مخصصات العاملين ورفع تكاليف التشغيل لا أكثر، ثم تستغل ما يتوافر لها من مرونة مالية وإدارية في توقيع عقود مع مقاولين خارجيين للقيام بمعظم الأعمال القاسية التي تتطلب جهداً حقيقياً، ما يجعلك تتساءل عن مبرر كل تلك الزيادات في مخصصات العاملين إذا كان ذلك لن يغير من أدائهم أو يحملهم مسؤولية أكبر. فعندما تتعامل مع شركة الاتصالات مثلاً فإن كل من تتعامل معه موظفين تابعين لمقاول خارجي، وترى أن كل من يقوم بأعمال شركة الكهرباء من حفر وتمديد شبكات وتوصيل خدمة مقاول خارجي وموظف شركة الكهرباء الوحيد الذي تراه أو تتعامل معه هو قارئ العدادات فقط. إذاً، ما عمل كل أولئك الآلاف من الموظفين الذين تضاعفت مخصصاتهم عدة مرات في تلك الأجهزة، إذا كنا في النهاية سنتعاقد مع مقاولين خارجين للقيام بمعظم الأعمال القاسية، في حين أن موظفي الجهاز المرشح للتخصيص يستمتعون فقط بالمخصصات المرتفعة والمكاتب المكيفة، ثم نجرؤ على أن نسمي ذلك تخصيصا رغم أنه إلى التخبيص أقرب.