الغرب وضياع البوصلة

يمكننا القول إن أوروبا وأمريكا أو ما نسميه الغرب قد شهد عدة مراحل تشكلت فيها رؤيته للحياة والقضايا الكبرى فيها، وذلك بدءاً من عصر النهضة حيث تولى الفكر والثقافة في الغرب فريقان، فريق الفلاسفة الوضعيين، وفريق العلماء الطبيعيين، وكانت مهمة الفريق الأول تحديد الغايات والجهة والأهداف، بينما كانت مهمة العلماء الطبيعيين العمل على وسائل الحياة وأدواتها من خلال الاختراعات والمكتشفات العلمية، وقد خرج الفريقان بنتائج متباينة، ففي الوقت الذي نجح فيه علماء الطبيعة في اكتشاف وسائل الحياة وصناعة الرفاهية، أخفق الفلاسفة الوضعيون في تحديد الغايات وجهة العبور، وكان اضطرابهم يشعر بالفعل بضياع البوصلة! ولقد كانت محاولات تحديد الجهة والغاية سلسلة من المحاولة والخطأ، وإن شئتم فقولوا من الخطأ والخطأ! بدءاً من المثالية الكنسية مروراً بالمادية الإلحادية، فالبراجماتية الذرائعية، ثم انتهاءً إلى ما بعد الحداثة الهلامية!
وقد أنهكت المفكرين والفلاسفة الغربيين محاولات البحث عن شاطئ الأمان، فبالرغم من رفاهية السفينة إلا أنه قد طفح القلق الوجودي على ركابها وهم يسيرون إلى غير هدى، في ظل ضياع الجهة وغياب الإجابة عن القضايا الكبرى (الكون، الإنسان، القيم..) في أذهان المسافرين ولم تجد نفعاً نفعية البرجماتية ونسبية الخير والشر فيها مما اضطر إلى استبدال المنفعة باللذة في مرحلة ما بعد الحداثة، وأصبح إشباع اللذة ثقافة غربية تعمل على قولبة المجتمع وتخدير الأفراد فيها، وأصبح الغرب كما يقول سيرج لاتوش أشبه ما يكون بآلة قام الغربي بتشغيلها ثم اكتسبت قوة الدفع الذاتية ففقد السيطرة عليها فدهسته ودهست الجميع معه. ينقل الكيلاني عن كريستوفر لوكاش في معرض نقده للتربية الغربية قوله: "... إن ما نحتاجه التربية في المرحلة الحاضرة من الحياة هو الإحساس بالاتجاه والغاية، فالإنسان يجد نفسه في حيرة واضطراب ويأس... لقد كرسنا أنفسنا للوسائل بينما نتحاشى ما هو أكثر أهمية وهو قضية الغايات والأهداف".
وقد ترجم إيليا أبو ماضي ضياع الجهة في طلاسمه "اللا أدرية" (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت!)، وقد أشار إلى جزء من أسباب الحيرة وضياع البوصلة :
قيل لي في الدير قومٌ أدركوا سرَّ الحياةْ
غيرَ أني لم أجدْ غيرَ عقولٍ آسناتْ
وقلوبٍ بليتْ فيها المنى فهْيَ رفاتْ
ما أنا أعمى فهل غيريَ أعمى؟ لست أدري

ولذلك ينتقد جون ديوي في كتابه (تجديد الفلسفة ) بكل صراحة وجود غاية نهائية أو مصدر واحد للأخلاق ( الولاء، المشيئة الإلهية، إرادة الحاكم ) ويعزو سبب القول بمصدر أو غاية واحدة للأخلاق أنه نتيجة النظام الإقطاعي، وهناك سبب يجعل ديوي يرفض الغايات الأخلاقية الثابتة وهو محاولة الخروج من الحيرة والنزاع الحاصل في الفلسفات السابقة للبراجماتية، ولذلك يرى أن المبادئ والمعايير والقوانين ليست إلا مجرد وسائل وأدوات عقلية لتحليل مواقف فردية، وبناء عليه فالفكرة مرتبط نجاحها بنتائجها الفردية، وبمعنى آخر النسبية كما صرح هو أو (تعدد الخير) فالشر نسبي فردي موقفي والخير نسبي فردي موقفي.
ولارتباط الرؤية والمعتقد بالسلوك فإن نظرة متأملة لحال الغرب تفسر لنا العبثية التي يعيشها الغرب في ظل ضياع البوصلة، ودعونا ننظر في سلوك وسيرة بعض المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين كان لهم أثرٌ في تغيير مجرى الحياة الغربية ناهيك عن عامة الناس الذين انتهى بهم الحال إلى عصر ما بعد الحداثة وإلى "القدرة على تغيير القيم بعد إشعار قصير".
ينقل لنا الدكتور الطعان في كتابه القيم (العلمانيون والقرآن الكريم .. تاريخية النص) بعض النقولات عن الفلاسفة الغربيين مثل برتراند رسل ووليم كلي رايت وغيرهم عن السير الشخصية لبعض الرموز الغربية، ولنسوق لكم بعض النماذج لتروا حجم الارتكاس الذي يعيشونه.
من النماذج جان جاك روسو صاحب كتاب العقد الاجتماعي الذي غيّر الخريطة السياسية الأوروبية من النظام الملكي إلى النظام الديمقراطي الذي كتابه هذا بالفعل إنجيل الثورة الفرنسية، يذكر روسو في كتابه الاعترافات عن سخافاته التي ارتكبها وجرائمه التي اقترفها ليجعل منها قدوة للإنسان الأوروبي، وهو نفسه الذي يصفه مؤرخو الفلسفة الغربية بأنه كان سافلاً لصاً غادراً خائناً كاذباً وكان مجرداً من جميع الفضائل، وكان يرتكب الزنا مع امرأة عجوز ظل لفترة طويلة يخاطبها على أنها أمه، وكان هو وخادمه يضاجعانها، ولما مات الخادم حزن عليه كثيراً، ولكن مما خفف عنه أنه علم أنه سيحصل على ثيابه. وهكذا يعيش الإنسان الغربي ليتعلم أنه لا صلة بين العلم والأخلاق، وقد أنجب روسو خمسة أطفال أرسلهم جميعاً إلى دور اللقطاء، وكان تأليفه كتاب (إميل) في التربية تعويضاً عما اقترفه في حق أبنائه هؤلاء!
أما أوجست كونت فقد اقترن بفتاة تشتغل بالبغاء، وقد وقعا في ضائقة مالية واقترحت عليه أن تسهم في معيشتهما عن طريق مهنتها القديمة ولكنه رفض ذلك، وهذا من المواقف التي تحمد له بين أصحابه!!
أما فرنسيس بيكون الذي يوصف من جهة بأنه مؤسس المنهج التجريبي وأعظم وأوسع وأبلغ الفلاسفة، والابن البار لعصر النهضة، والمفكر الغزير العلم كما يقول عنه برينتون وأعظم عقل في العصور الحديثة كما يقول عنه ول ديورانت، هو نفسه الذي يوصف من جهة ثانية بأنه لم يكن رجلاً فاضلاً كريم النفس، وإنما كان خائناً غادراً مختلساً انتهازياً منعدم الضمير كما وصفه الفلاسفة الذين مدحوه قبل قليل، وكان ليوناردو دافنشي وإيرازموس ولدي زنا، أما ديكارت الذي يعد أبو الفلسفة الحديثة، وكان يعد من الفلاسفة المتدينين، فلم يتزوج، وقد أنجب ابنة من سفاح.
هذه نماذج على مستوى الفلاسفة والمفكرين وهي نتاج طبيعي لضياع البوصلة وفقدان المنهج، فهل نسهم نحن المسلمين في إعادة الغرب إلى طريق النجاة وبر الأمان، فالحاجة ماسة لتفعيل الدور الحضاري الإسلامي الذي يملك البوصلة الإيمانية. أم نبقى متأثرين مستهلكين للحياة والقيم الغربية!؟

خاطرة:
أرى الناس مـن داناهم هان عندهم ومـن أكرمته عزة النفـس أكرما
وما كل بـرق لاح لي يستفـزني ولا كل من لاقيت أرضـاه منعما
وإني إذا فاتني الأمـر لـم أبـت أقلـب طـرفي إثـره متنـدمـا
ولكنه إن جـاء عفـواً قبلـتـه وإن مال لـم أتبعـه لولا وربمـا
وأقبض خطوي عن أمور كثيـرة إذا لم أنلها وافـر العرض مكرمـا

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي