عالميـة علم الاقتصـاد
يرى بعض الكتاب أن علم الاقتصاد معبر عن قيم الغرب وثقافته، وكانت هذه النقطة من أسس الادعاء بوجود بديل مغن عن علم الاقتصاد باسم الاقتصاد الإسلامي. القول بأن علم الاقتصاد معبر عن قيم الغرب وثقافته كلام غير دقيق، بل هو غير صحيح، هكذا على إطلاقه. وكثيرا ما يكون مصدر الغلط أن أولئك الكتاب استندوا إلى نظريات اقتصادية قيلت في ظروف بعينها (وخاصة نظريات لعلماء اقتصاد في القرن التاسع عشر)، وتوهموا أن هذه النظريات تمثل منهجية ومنحى العلم، أي أنها تمثل أصول وماهية العلم وطبيعته، أو أنها تكتسب الدوام الزمني والدوام المكاني.
لنفرق بين ماهية ومنهجية علم الاقتصاد، ومعاييره وأصوله، ونظريات قيلت في العلم نفسه.
العلم من حيث المنهجية والمنحى وأدوات التحليل عالمي، غير مختص بالغرب. مثلا، أسس تحليل حركة الأسعار أو العرض والطلب على سلعة في علم الاقتصاد (باستخدام الكلام والرسوم البيانية والرياضيات) لا تتغير بسبب تغير عادة أو ثقافة بعينها، والذي يتغير بسبب تغير الثقافات هو قوة كل مؤثر في حركة الأسعار، فقد يضاف عامل، ويهمل عامل في التحليل النظري، ثم يؤيد ذلك أو لا يؤيده العمل التطبيقي القياسي، مما يتطلب إعادة البناء والتحليل النظري، وهذا ما يسار عليه في البحث العلمي الاقتصادي. وينشأ من ذلك أن استخدام أدوات التحليل الاقتصادي والمنحى في استخدامها لدراسة العوامل الاقتصادية المؤثرة والعلاقات الأصل فيها العالمية، أي أنها ليست مختصة ببيئة دون بيئة، أو حضارة دون حضارة، أو ديانة دون ديانة. ولذا ليس بصحيح تعميم القول بأن علم الاقتصاد لا يراعي البيئات.
القول السابق يخلط بين منحى ومنهجية التحليل النظري والتطبيقي، التي تصلح لكل بيئة، وهي معتمدة على السببية والتعليل في تفسير التصرفات والوقائع الاقتصادية، باستخدام الألفاظ والرياضيات والإحصاء، وبناء نظري بعينه، كتطوير نموذج اقتصادي قياسي econometric model بعينه لشرح النمو الاقتصادي، أو اختيار عوامل بعينها لتفسير تأثير الإنفاق الحكومي في بلد بعينه، وكالقول بأن سبب ارتفاع سلعة ما هو كذا من العوامل، أو سبب البطالة (قد يكون تعميما أو في دولة ما) هو كذا من العوامل. قد يبين التمحيص النظري و/أو التطبيقي وجود خلل في أصل البناء النظري أو التفسير المعطى، ومن ثم حاجته إلى التعديل. وعمل التعديل يتطلب إعادة نظر في طبيعة الأسباب والمؤثرات وكيفية تفاعلها مع بعض. وكل هذا معروف، ويدركه جيدا المتمكنون من علم الاقتصاد.
المشكلة السابقة لا تظهر فقط عند تغير البيئات، بل حتى في البيئة الواحدة، فكل متخصص في علم الاقتصاد يعرف وجود خلافات بين علماء الاقتصاد في تفسير بعض الوقائع الاقتصادية، حتى لواقعة بعينها وفي بلد بعينه، استنادا إلى خلافات في فهم العوامل والأسباب وتقدير قوة تأثيرها. وعندما كنت أعمل باحثا ومستشارا اقتصاديا في إحدى الوزارات، وأسندت إلي تشغيل نموذج اقتصادي كلي قياسي macro-econometric model، والذي سبق أن عمله فريق أمريكي متعاقد مع الوزارة، وجدت فيه عيوبا، وبعض العيوب راجع إلى عدم إدراك الفريق الأمريكي الإدراك الجيد بعض العوامل المحلية المؤثرة، وقد قمت وزميل آخر بإعادة بنائه وتطويره من جديد.
بل لقد ظهرت حقول وفروع تخصصية من علم الاقتصاد تقوم على مراعاة الفروق بين البيئات، فمن الأمثلة وجود الاقتصاد النفطي والاقتصاد الزراعي والاقتصاد البيئي والاقتصاد المؤسسي التحكمي institutional economics واقتصاد المعرفة. وبصفة عامة تسمح منهجية ووسائل وطرق البحث الاقتصادي بتطور فروع وحقول تخصص لبيئات بعينها، وهذه قضية جوهرية معروفة في علم الاقتصاد.
وأختم هذه المقالة بسرد بعض ما أراه أهم معايير وأصول علم الاقتصاد:
ـ حب الاستزادة: زين للجنس البشري حب الدنيا، ولذا يسعى الإنسان إلى تحقيق أقصى إشباع أو منفعة من الدنيا.
ـ المحدودية: الموارد الإنتاجية محدودة، ولذلك لا يمكن الحصول على كل ما تشتهيه الأنفس، فهذا في الجنة فقط. وليس لقانون العرض والطلب من معنى لولا وجود المعيارين الأول وهذا الثاني.
ـ الاختيار: يمكن استعمال نفس الموارد للحصول على عدة بدائل من السلع والخدمات، كما يمكن توزيعها على أكثر من فترة زمنية، ولذا لابد من الاختيار، ولكل اختيار محاسن وعيوب.
ـ حق الملكية الخاصة: هذا هو الأصل، ولا يمنع ذلك من وجود استثناءات.
ـ التنظيمات والقوانين والنظم: لتنظيمات السوق والنظم الاقتصادية دور في الاختيار ومراقبة وتنظيم الأمور وتحقيق المستويات المعيشية. من الأمثلة الأحكام الشرعية والقانونية والمحاكم ... إلخ.
ـ دور الحوافز: الناس تستجيب إلى الحوافز الإيجابية والحوافز السلبية.
ـ الاستفادة من التبادل: لا يحدث التبادل الطوعي إلا عندما تتوقع الأطراف المشاركة اكتساب فائدة.
المعايير أو الأصول السابقة تعبر عن صفات بشرية، بغض النظر عن الدين أو الموقع الجغرافي، ولكن تظهر أحيانا خلافات في تفاصيل، مثل حدود الملكية الخاصة والملكية العامة، ومدى الرغبة في فعل الخير أو بذل سلع وخدمات دون استناد إلى حساب الربح والخسارة المادية. ولكن من المهم التنبيه إلى أن تلك المعايير أو الأصول ليست هي علم الاقتصاد، ولكنه يستند إليها في التحليل. وبالله التوفيق،،،