فهم الكلام قبل نقده

عنوان هذه المقالة (أو نحوه) مما تعلمته من الشيخ عبد الله الغديان، عضو هيئة كبار العلماء، في السنة التمهيدية لماجستير الفقه وأصوله في كلية الشريعة بالرياض في أواسط العقد الأول من هذا القرن الهجري.
خفي على أبي عبيدة معمر بن المثنى (من العهد العباسي، وكان من أعلم الناس بالشعر والبلاغة والأخبار والأنساب) الفرق بين ألف التأنيث وألف الإلحاق، فقال في مواجهة المازني (من كبار علماء النحو في العصر العباسي): ما أكذب النحويين، يقولون إن هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث، وهم يقولون علقاة، فقيل لأبي عثمان المازني لِمَ (بكسر اللام وفتح الميم) لم تفسر له؟ فقال: لم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا (الخصائص لابن جني، الجزء الأول، ص 272).
ما أكثر الذين ينتقدون أقوالا يبدو أنهم لم يفهموها جيدا. وهاكم مثالين، الأول من كتاب الدكتور عيسى عبده، رحمه الله، "الاقتصاد في القرآن والسنة" (1982). والثاني من كتاب الدكتور محمد الجمال "موسوعة الاقتصاد الإسلامي (1400- 1980). والمؤلفان ليسا من المتخصصين في علم الاقتصاد، ولكنهما كتبا كثيرا تحت اسم الاقتصاد الإسلامي.

طلب وعرض العمل
ذكر عيسى عبده في كتابه "الاقتصاد في القرآن والسنة" (1982) أن الاقتصاد الإسلامي يرى عكس ما تراه النظرية الاقتصادية أو ما سماه كتاب المادة الاقتصادية في تحليل العمل.
يقول "الإجماع منعقد عند كتاب المادة الاقتصادية على أن عرض العمل يجيء من العامل.. أما الطلب على العمل فيجيء من صاحب العمل.. فأما في الاقتصاد الإسلامي يرى عكس ذلك، إنه يجعل طلب العمل صادرا من الكادحين المنتجين أيا كان المستوى .. والكل يطلب العمل.. ويجيء العرض من جانب المجتمع بإشراف ولي الأمر وتحت مسؤوليته،.. إلخ".
المتخصصون في علم الاقتصاد يعرفون، كما تعرف ذلك كل فئات المجتمع، أن العمال أو العاطلين يطلبون أعمالا ووظائف. ولكن البحث العلمي الاقتصادي يتطلب تقسيما يفيد في التحليل الاقتصادي، ويتفق مع طريقة التحليل الاقتصادي للعوامل الإنتاجية الأخرى غير العمل كرأس المال، وينسجم أيضا مع التسجيل المحاسبي، ومع الطريقة التي تعد بها التحليلات المالية وحسابات الميزانيات والأرباح والخسائر للمنشآت والمؤسسات.
التعبير الذي يستخدمه المتخصصون في الاقتصاد، عرض العمل، يقصدون به قوة العمل المتاحة للإنتاج. مثلما نقول إن عرض أي سلعة وخدمة أخرى تعني القدر المتاح للبيع. ومن جهة ثالثة، البائع أو من يملك السلعة أو الخدمة عارض والمشتري أو دافع النقود أو من يحتاج إلى السلعة أو الخدمة طالب, هذه قاعدة.
كما أن قوله "طلب العمل" يمكن أن يفسر باتجاهين متعاكسين: طلب العامل أن يعمل وطلب صاحب العمل أن يعمل العامل عنده. وغير ما سبق، من الممكن تعميم ما قاله ".. ويجيء العرض (بالعمل) من جانب المجتمع"، إذ يمكن أن يقال أيضا ".. ويجيء العرض بشراء السلع والخدمات من جانب المجتمع"، ويمكن أن يقال إن البائع طالب، لأنه يطلب رزقا. ومن ثم لا يصبح للاصطلاح والتسميات وقانون العرض والطلب معنى. كل هذه النقاط لم يناقشها الدكتور عيسى عبده، ليتبين له أن نقده في غير محله.

المشكلة الاقتصادية: موارد بمقادير
يقول الدكتور محمد الجمال في كتابه "موسوعة الاقتصاد الإسلامي (1400-1980) "المشكلة الاقتصادية، وهي مشكلة الفقر، ليست كما تصورها الرأي التقليدي السائد، بأنها مشكلة تعدد الحاجات وندرة الموارد، وإنما هي مشكلة سوء توزيع الثروة والدخول. ص36.
غلط الجمال ومن نحا نحوه، في فهمهم للمشكلة الاقتصادية (أو ما يسمى كذلك) كما تشرحها كتب مبادئ علم الاقتصاد، التي سمتها أحيانا بالندرة النسبية أو وجود حدود للموارد. إن الفقر وغيره من الأمور الأخرى التي ذكروها في معنى المشكلة الاقتصادية كالكسل والإسراف وسوء التوزيع، لا تنكر، بل هي من أوضح الواضحات، ولكنها تزيد من القناعة بوجود المحدودية. إذ ليس من المتصور أصلا إمكان وجود تلك المشكلات من دون وجود موارد بمقادير وحدود، أي لو أن الموارد كانت متاحة من دون حدود وكما يشتهي كل واحد، لما كان للفقر وتفاوت الأرزاق والثروات والإسراف والسرقة والكد والبيع والشراء والأسعار والأجور والتوظيف... إلخ معنى. هل نتصور وجود الفقر في الجنة؟ كلا. ربما كان لبعض الناس إشكال في استعمال كلمة "مشكلة"، ولكن الشرح المعطى لها ينبغي أن يرفع الإشكال.
وقد أورد كتاب ساملسون ووردهاوس "الاقتصاد" الذي يعد (أو كان يعد) أشهر كتاب على مستوى العالم في مبادئ علم الاقتصاد، الذي طبع نحو 20 طبعة، وبيعت منه ملايين النسخ، وترجم إلى أكثر من 40 لغة، منها العربية توضيحا لما تعنيه كلمة ندرة. وحقيقة، لا أرى استخدام كلمة ندرة استخداما موفقا، لأن الكلمة لا تنسجم مع الشرح المعطى لها في كتب مبادئ علم الاقتصاد.
يقول: "فإذا كان في الإمكان إنتاج كميات غير محددة من كل سلعة، أو إذا أشبعت كل الحاجات البشرية بالكامل، فماذا ستكون النتيجة؟ لن يقلق الناس على وضع ميزانية لدخلهم، لأن في وسعهم الحصول على كل ما يريدون، .. فطالما كان في وسع الجميع الحصول على كل ما يرغبون، فلن يهتم أحد بمسألة توزيع الدخل بين مختلف الناس أو الطبقات... ولن يكون هناك صلة ما بين الأسواق والأسعار، ولن يكون لعلم الاقتصاد أهمية أو فائدة". ص 30. أقول: مثل هذا لا يوجد إلا في جنات النعيم، جعلنا الله سبحانه جميعا من أهلها.
قبل النقد علينا أولا أن نفهم القول الذي ننوي أن ننتقده، وبالله التوفيق.

* متخصص في الاقتصاد الكلي والنقدي والمالية العامة، وكبير اقتصاديين سابق في وزارة المالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي