التسعير (1 من 2)

من يطلع على ما كتب في كتب فقهية عن التسعير، يجد أن الأصل منع التسعير. ولكن تسعير ماذا؟
التسعير في فهم أسلافنا يتناول عادة ما يسمى في علم الاقتصاد بالسلع الخاصة المحضة. وللإيضاح كلمة سلع هنا تشمل أيضا الخدمات. وتبسيطا للفهم، يخرج من هذا النوع تلك السلع التي:
* يبيعها طرف حكومي (بما في ذلك شركات الحكومة).
* أو يبيعها القطاع الخاص ولكنها مدعومة حكوميا.
* أو يحصر القانون إنتاجها في شركة أو شركات بعينها لأسباب موضوعية مردها طبيعة السلعة، كانخفاض تكلفة إنتاج الوحدة الواحدة دون إضرار بالجودة (أو عكسها ارتفاع الجودة دون ارتفاع تكلفة الوحدة الواحدة).
* أو واقعة تحت ما يسمى في علم الاقتصاد بفشل السوق (فشل المعاوضة أن تعمل)، مثل حالة السلع المتعدية الأثر، أو التي يصعب حصر استهلاكها بالذي تحصل عليها.
من جهة أخرى، بعض الشركات ملكيتها موزعة بين الحكومة والقطاع الخاص بمعناه الضيق.
وأصل منع التسعير (في السلع الخاصة المحضة) لأن للمال حرمة، والأصل في المعاوضات توافر الرضا بين الطرفين المتعاقدين. ويرى كثير أو ربما جمهور الفقهاء جواز أو مشروعية التسعير عند الحاجة. ولكن كيف نتعرف على هذه الحاجة؟ هذا شأن عام، ليس خاصا بالفقهاء أو الاقتصاديين أو المسؤولين الحكوميين.
ومن أحسن من كتب في التسعير من المتقدمين الإمام العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. ومن يرغب التوسع فله الرجوع إلى كتاب "الحسبة" لابن تيمية، وكتاب "الطرق الحكمية" لابن القيم. وعامة أو جمهور الفقهاء المعاصرين (حسب علمي) لا يخالفون في ذلك. ومدار الإفتاء بأن التسعير جائز عند الحاجة قائم على أن الله سبحانه يأمر بالعدل وينهى عن البغي والظلم.
سئل الإمام ابن تيمية عن الغلاء والرخص‏ هل هما من الله تعالى أم لا‏؟ وكان مما أجاب به "...أن الغلاء بارتفاع الأسعار، والرخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده. والغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض، بل قد يكون سببه قلة ما يخلق، أو يجلب من ذلك المال المطلوب، فإذا كثرت الرغبات في الشيء، وقل المرغوب فيه، ارتفع سعره، فإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره...".
وقال في كتاب الحسبة: "فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق... وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل‏:‏ فهو جائز، بل واجب‏".
قوله "الوجه المعروف ... عوض المثل:" ليس لها حدود مقدرة، ومعايير محددة شرعا. ولم يرد في الوحي تحديد للحاجة وكيفية التسعير وما تأثيراته، بل تركت الإجابات إلى العرف والخبرة والمعرفة الفنية والبحث والنظر العقلي الكوني.
وقوله "ارتفع السعر لقلة الشيء، ارتفع لكثرة الخلق"، واضح أنها تفسيرات من الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لأسباب ارتفاع السعر. ومثل هذه التفسيرات مصدرها الكون والوسائل والخبرة والبحث والنظر والدرس باستخدام عقولنا.
ومن ثم فتفسيرات المؤلف ـ رحمه الله ـ خاضعة للتطورات في فهم آلية السوق، وما قاله هو اجتهاد منه في فهم عمل الأسواق، وهو اجتهاد يدل على سعة فهم وذكاء، مأخوذا بعين الاعتبار بساطة الحياة، وبساطة الفهم لعمل قوى السوق آنذاك، خلاف أن ابن تيمية لم يكتب أصلا بغرض شرح كيف تعمل السوق.
وقوله ـ رحمه الله ـ "كثرة الخلق" المعول (في علم الاقتصاد) على زيادة الطلب، وزيادته غالبا وليس دائما بسبب زيادة الدخل، وقد يحدث هذا بدون زيادة عدد الناس، مثلا بسبب ما نسميه في علم الاقتصاد بزيادة متوسط إنتاجية العامل الواحد. النمو السكاني يجلب غالبا زيادة دخل. وفي هذه الحالة قد تكون الزيادة في الدخل أعلى أو في الناس (نمو السكان) أعلى. وقد لا يزيد الدخل (الحقيقي) إلا قليلا، بينما يزيد السكان كثيرا، ومن ثم يقل المستوى المعيشي لغالبية السكان، ويحدث غالبا تغيير في نمط الاستهلاك، بما يزيد الطلب على سلع وغالبا يرفع أسعارها، وبالمقابل، يقللها على سلع أخرى وقد يخفض أسعارها.
وقد يرتفع السعر لعامل خارجي مثل انخفاض سعر الصرف، أو رفع السعر من قبل المصدر في حالات الاستيراد. وهناك عامل تضخم العرض النقدي، الذي جلبه التحول إلى استعمال النقود الاسمية كالنقود الورقية بدلا من الذهب والفضة. ومن خصائص هذه النقود أنه لا قيمة (تقريبا) لها لذاتها، وأن بالإمكان توليد كميات كبيرة منها، سواء عن طريق السلطة أو عن طريق البنوك، دون لزوم أن يقابل ذاك زيادة المعروض من السلع والخدمات، وهذا ما يحدث في الواقع، ومن نتائجه انخفاض قيمة النقود (التضخم). ولن ينجح التسعير في خفض الأسعار مع بقاء أصل الإشكال، بل سيعمل على جلب المشكلات التي تضر أول المستهدفين من التسعير (ذوي الدخول الأقل) أكثر من غيرهم، ولعل هذا مما يفسر ما بدأت فيه هذه المقالة، وهو أن الأصل منع التسعير، وبالله التوفيق.

متخصص في الاقتصاد الكلي والنقدي والمالية العامة، وكبير اقتصاديين سابق في وزارة المالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي