مفهوم "العقل" في الرؤية البيانية للعالم
إذا نحن انطلقنا من المبادئ الثلاثة الأساسية التي تقوم عليها نظرية الجوهر الفرد التي تؤسس الرؤية البيانية "العالمة" للعالم، والتي شرحناها في المثلات السابقة، أعني المبادئ التي تنص على أن "ليس ثمة في الوجود غير الجواهر والأعراض" وأن "الجواهر لا تنفك عن الأعراض"، وأن "الأعراض لا تبقى زمانين"، فإن البحث في التصور البياني "العالم" للعقل والوجود، للعلاقة بين الأنا العارف وموضوع المعرفة، لا بد أن يبدأ من التساؤل : هل العقل جوهر أم عرض؟ وهل "الوجود" نفسه جوهر أم عرض أم هما معا؟ ذلك لأن كل شيء في الرؤية البيانية "العالمة"، يجب أن يتأطر داخل نظرية الجوهر المفرد، أعني أنه يجب ألا يتناقض مع المبادئ الثلاثة المذكورة.
بالفعل لقد سبق أن أشرنا في مقال سابق إلى أن أصحاب هذه النظرية يعتبرون العقل عرضا يصدق عليه ما يصدق على غيره من الأعراض، مثله في ذلك مثل المعرفة والإدراك والإحساس والحياة والقدرة والإرادة .. إلخ. وسيكون علينا، بعد تلك الإشارة الخاطفة، أن نعمل على جلاء المسألة بالصورة التي تجعل التصور الذي تقدمه الرؤية البيانية عن العقل والوجود والعلاقة بينهما مكملا للتصور الذي تقدمه عن المكان والزمان وعن طبيعة العلاقة التي تنتظم الأشياء فيهما، وبذلك نكون قد قدمنا صورة إجمالية، واضحة قدر الإمكان، عن الرؤية البيانية للعالم: الرؤية التي شيدها المتكلمون والتي تبناها في جملتها جميع البيانيين قبل ارتباط الأشاعرة –مع الغزالي- بالمنطق الأرسطي، وبالتالي مع مفاهيم منظومته، أعني قبل انهيار نظرية الجوهر الفرد نتيجة تناقضاتها الداخلية، وستكون مسألة العقل والوجود من أهم أسباب انهيارها كما سنرى. أما الآن فنتابع كلامهم في هذه المسألة من بدايته.
"ليس ثمة في الوجود غير الجواهر والأعراض"، و"العقل عرض". ذلك ما سبق تقريره في المقالات السابقة. والسؤال الذي يطرح نفسه، بادي ذي بدء، والذي سننطلق منه هنا هو التالي : إذا كان العقل عرَضا، والعرض، بالتعريف، لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالجوهر، كما سبق القول، فأين يقع "الجوهر"، الذي يقوم به "العقل"؟ وما نوع علاقته به ؟
قبل الجواب عن هذا السؤال، من داخل نظرية الجوهر الفرد، لا بد من الرجوع إلى اللغة. فاللغة العربية، كما قلنا ولمسنا، كانت دائما المرجع الإيبيستيمولوجي الأول لكل مفكر بياني، وما زالت كذلك إلى اليوم.و ما سيهمنا من المعنى اللغوي، لكلمة "عقل" هو الجانب أو الجوانب التي تؤسس المفهوم البياني "العالم" لـ "العقل" كأداة للمعرفة، أي كطرف يدخل في علاقة معينة مع الموضوع، موضوع المعرفة.
تجمع المعاجم العربية على أن المعنى الابتدائي لكلمة "عقل"، أعني المعنى الذي يحيل إلى المشخص المحسوس، هو "الربط". قال في لسان العرب. "وعقل البعير يعقله عقلا وعقله واعتقله : ثنى وظيفه" مع ذراعه وشدهما جميعا في وسط الذراع، وكذلك الناقة. وذلك الحبل هو العِقال، والجمع : عُقل... والعقال : الرباط يعقل به". ذلك هو المعنى الابتدائي/ الأصل الذي تمدنا به المعاجم العربية عن كلمة "عقل". أما المعنى الابتدائي/الفرع الذي تقدمه لنا المعاجم نفسها فهو قولهم: "عقل الدواء بطنه يعقله ويعقله عقلا: أمسكه. وقيل أمسكه بعد استطلاقه. واسم الدواء: العَقول. يقال : "اعطني عقولا فيعطيه ما يمسك بطنه"، ومنه أيضا : "اعتُقل لسانه إذا حُبس ومُنع من الكلام". ثم ترتفع بنا المعاجم درجة أخرى على سلم التعميم والتجريد فنقرأ -في لسان العرب دوما-: "رجل عاقل وهو الجامع لأمره ... وقيل : العاقل : الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها". ثم ترتقي بنا ذات المعاجم درجة أعلى على نفس السلم فنقرأ ما يلي: "والمعقول ما تعقله بقلبك... والعقل: القلب، والقلب : العقل. ويقال : لفلان قلب عَقول ولسان سَئول. وقلب عقول : فَهِمٌ، وعقَل الشيء يعقله عقلا: فهمه". وفي هذا المعنى يقول المحاسبي : "والعرب إنما سمت الفهم عقلا لأن ما فهمته فقد قيدته وضبطته بعقلك، كما البعير قد عُقل، أي أنك قيدت ساقه إلى فخذه".
هكذا ينتهي بنا تتبع المعاني اللغوية لكلمة "عقل"، في انتظامها على سلم الانتقال من المحسوس المشخص إلى المعقول المجرد، إلى نتيجتين :
الأولى هي أن العقل بمثابة قيد للمعاني، فهو يقيدها ويحفظها ويربطها. وقد وردت في هذا المعنى آيات كثيرة في القرآن منها قوله تعالى : "يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" (البقرة 75) أي من بعد ما فهموه وقيدوه ووعوه. وفي هذا المعنى ينسب إلى عمر بن الخطاب قوله. "لما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها"، كما يروى أن شخصا سأل أنس بن مالك قائلا : "أخبرني بشيء عقلته عن النبي"، أي أخذته وقيدته ووعيته. وإذن فـ "العقل" في المجال التداولي البياني/الأصل هو عملية تقييد وحفظ للمعاني والمعارف التي تُتلقى. إنه فعل أو نشاط وليس ذاتا، وبعبارة المتكلمين هو عرض وليس جوهرا.
أما النتيجة الثانية التي ينتهي بنا إليها تتبع المعاني اللغوية لكلمة "عقل"، فهي أن هذا الفعل الذي يقوم به "العقل"، فعل الربط والضبط والحفظ، يتم في "القلب"، وبعبارة أخرى "العقل" في الحقل المعرفي البياني فعل أو وظيفة لعضو هو "القلب". وكما ذكرنا قبل، فقد ورد في لسان العرب : "المعقول : ما تعقله بقلبك"، فكأن القلب أداة والعقل وظيفتها. وقد وردت في القرآن آيات تفيد هذا المعنى، منها قوله تعالى : "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها" (الحج : 46)، وكذلك قوله : "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها" (الأعراف 179). وهذا يفهم منه أنه كما أن الآذان أداة للسمع والأعين أداة للإبصار، فالقلب كذلك أداة للعقل.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كان "العقل" مجرد فاعلية ونشاط أي مجرد "عرض"، وكان "القلب" هو أداة هذه الفاعلية وعضوها، فهل يعتبر المتكلمون أن هذا الأخير، أي "القلب"، هو الجوهر الذي يقوم به ذلك العرض أعني "العقل"، باعتبار أن العرض عندهم لا يقوم بنفسه بل لابد له من محل يقوم به؟