مقعِّد الحنشل

إنها قصة استفدتها من أبي عبد الرحمن!
قال لي: الحنشولي هو لص البادية أو قاطع الطريق، والمنطل هو لص المدينة، ومقعِّد الحنشل هو موقظ اللصوص بعد غفلتهم ونومهم! فذهبت بها الأمثال في الحماقة!
وحين نطق أبو عبد الرحمن بالعبارة لم أستوعبها، وجرت عادتي أن غامض العبارات يثير فضولي.
قلت له: كرر ما قلت. فضحك وبدت نواجذه!
قال: هو مثل سعودي!
قلت له: حسنا كلمة كلمة، ولأبدأ من عندي، مقعد أي أقعد وقعد، بمعنى قام واستيقظ ونهض من سبات أو رقاد! أليس كذلك؟
قال: أحسنت. قلت: ولكن من هو الحنشل؟
هنا ضحك تماما وقال: اسمع القصة إذن فهي نموذج لإيقاظ المشكلات الراكدة والفتن النائمة!
تابع.. هو رجل مسافر بجمله ومتاعه عبر الصحراء؛ فمر عند صلاة الصبح على قوم نيام؛ فأبى إلا أن يوقظهم لصلاة الصبح، ولم يكونوا سوى لصوص من قطاع طرق، قد استغرقوا في النوم! فأبى صاحبنا إلا أن يوقظهم!!
حسنا استيقظوا على فريسة رائعة!
فلما قاموا فرحوا جدا بالرجل، واندفعوا إليه يمسكون تلابيبه، وقالوا نفسك أو متاعك. فلم يكن له بد إلا أن يتنازل لهم عن كل شيء حفاظا على الحياة، فكل ما عداها قابل للتعويض!! فأعطاهم كل ما يريدون!
ويضرب السعوديون المثل بمن يوقظ مشكلات وفتنا هو في غنى عنها، كما دفعت إلى ذلك أريحية صادقة لرجل يجهل عنهم كل شيء في فلاة وطرق منقطعة، ولم يكونوا سوى عصابة مخيفة من المفسدين في الأرض بأشد من أيقاظ حنش سام! فما باله وبال هؤلاء القوم وما شأنهم.
لذا ذهب المثل العربي أيضا "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
وفي القرآن أيضا "وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا"، فالإسلام غير حريص على القتال من أجل القتال.
وفي كتاب القوة لروبرت غرين جاء مثل القرد والحمص. تحت بند قانون القوة رقم 36 "احتقر الأشياء التي لا تستطيع امتلاكها فتجاهلها أفضل انتقام".
ويمضي في شرح القانون فيقول:
"إذا اعترفت بمشكلة تافهة فإنك تعطيها وجودا ومصداقية، وكلما زاد اهتمامك بعدو فإنك تجعله أقوى؛ والغلطة الصغيرة كثيرا ما تصير أسوأ عندما تحاول إصلاحها، والشيء الأفضل أحيانا هو ترك الأمور وشأنها، فإن كان هناك شيء تريده ولا تستطيع امتلاكه، فاظهر احتقارك له، فكلما قل الاهتمام الذي تظهره، فإنك ستبدو أكثر تفوقا".
وقصة القرد والحمص تظهر هذا التناقض في أجلى بيان؛ فقد جاء في كتاب الخرافات لـ "ليو تولستوي" أنه يحكى:
"عن قرد كان يحمل حفنتين من الحمص في يديه، فسقطت منه حبة حمص صغيرة، فحاول أن يلتقطها، فسقطت منه عشرون حبة إضافية، فحاول أن يلتقط العشرين، وعندئذ سقط منه الحمص كله، حينها فقد هدوءه واحتد طبعه، وبعثر حبات الحمص في جميع الاتجاهات وولى هاربا". ولعل مبدأ التكلف يندرج تحت هذه المسألة، وهي التي وصف الله عباده الصالحين بالخلاص منها، فقال على لسان نبيه: "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين".
ويدخل في هذا اختراع وتحريك أسئلة بدون مبرر، "قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين".
وأذكر أنا من الطب أننا تكلفنا في مريض كان معه التهاب زائدة دودية فحرصنا على أن نفحص المكان أكثر من اللازم، فكنا في مشكلة فوقعنا في ورطة، حيث أصيب المريض بعد العملية بانسداد معوي، مما ترتب عليه ـ وإنقاذا لحياته ـ فتح بطنه من جديد وتحرير الالتصاقات لترجع الأمعاء إلى حركتها الاعتيادية، لكن في المرة الأخيرة لم نلعب في البطن كثيرا ولم نكثر من التحريات و"البحبشات"، بل نزلنا على المشكلة وخلصنا منها، ثم خرجنا بسرعة ودون أي إبطاء، فتعافى المريض وذهب إلى أهله بخير.
فكلها كما نرى قصص متشابهة سواء كانت عند مقعِّد الحنشل، أو ثعلب الحصرم، أو قرد الحمص، أو اختلاق أسئلة وهمية، لتحميل الناس أوزار أجوبتها.
"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها، والله غفور حليم".
فهذا هي أحد أوجه الحكمة "ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي