كابوس الاختلاط الجراحي

الاختلاط الجراحي كابوس الجراحين، ولكنه يحدث على الرغم من كل احتياط وحسبان، ولذا كان على كل جراح ألا يسمي أي عملية أنها صغيرة، حتى يخرج منها.
وليس الجراح الجيد هو فقط من أجرى عملية جيدة بل من اكتشف الاختلاط (المضاعفات Complication) وسيطر عليه في الوقت والمكان المناسبين، وأخذ بيد مريضه إلى شاطئ السلامة.
وأذكر من زميل جراح أنه كان يقوم بعملية بسيطة، حين كان يحاول استئصال ورم شحمي من منطقة الإبط، عند مريضة شابة، جاءت للجراحة لاعتبارات جمالية.
وفي محاولة عزل الورم السليم واستئصاله، نزف شريان صغير في المنطقة، فهجم عليه الجراح يحاول إسكاته باللاقط، فلم يزدد إلا نزفا!
فما كان من الجراح إلا أن ارتكب أفدح خطأ يمكن أن يرتكب، حين ربط الشريان الكبير، وهو يظنه أنه شريان صغير، ليكتشف لاحقا أنه ربط الشريان المغذي للطرف العلوي الأيسر.
والشريان لا يتحمل أي مداعبة؛ فيتشنج ويصغر حجمه، حكمة من الله في أي نزف، فمع التقلص والانكماش للداخل يحبس الدم أن ينهمر.
توقف النبض في الرسغ، وبردت اليد، وبدأ لون الجلد في التغير!
كان الجراح في ورطة مصيرية، أن تكون السيدة الشابة قد دخلت المستشفى بذراعين، من أجل عملية ليست تلك الضرورية ضرورة قصوى، لتخرج مقطوعة الطرف؟
نادى علي الزميلة فزعاً؛ فتأكدت من الإصابة، وصارحته بضرورة فتح المكان على نحو واسع، للتأكد من طبيعة الإصابة ومكانها تمهيدا لإصلاحها قبل فوات الأوان؛ فانقطاع الدم أكثر من ساعات معدودة يجعل الطرف مهددا بالبتر؟
وخلال خمس ساعات مكثفة من التركيز العالي، وتدفق الأدرينالين في العروق، والتوتر والضغط النفسي؛ لأننا نعلم يقينا أن أي فشل في العملية معناه قطع الذراع غالبا، أو طرف منه، أو في أضعف التقديرات تأثر الطرف حسا وحركة على نحو خطير!.
وإصابة (الشريان الأبطي) قد تكون هي التي تعرض لها الصحابي (سعد بن معاذ) الذي حكم في قضية الخيانة العظمى ليهود بني قريظة، حيث أصيب في معركة الخندق في عرق (الأكحل)، ووصفته العرب بأنه العرق الذي لا يرقأ، فكان يدعو الله أن يبقيه لما بعد معركة الخندق، وهو الذي كان؛ فانفجر عليه الشريان فمات منه لاحقاً.
وأنا قمت بتحقيق في إصابة الصحابي ـ وهذه تحتاج إلى مقالة مستقلة ـ حيث إن السيرة لا تفيد بشكل واضح أين كانت الإصابة، فاهتديت إلى هذه الإصابة المخيفة التي واجهناها، في قاعة العمليات، لمريض مخدر، وإمكانات الطب في القرن العشرين.
وليس كما عولج الصحابي الكريم بحصير محروق؟ وهو متوقع لطب تلك الأيام..
وهذا النوع من الإصابات، إن نزفت قتلت كما قضت على الصحابي، وإن ربطت ترتب عليها في أقل الحالات ضعف الطرف إلى درجة الشلل، مع مظاهر مزعجة متعددة أخرى...
وإلا فهو البتر الكريه ..
ونحن في إصابات الشرايين هذه الأيام نقوم بتصنيع الشرايين، واستطاع الطب تطوير شرايين صناعية تعيش داخل البدن ويتحملها بسهولة، مثل الجورتكس والداكرون. وهو فتح طبي جليل..
ويفضل استخدام أوردة الجسم مقلوبة الاتجاه نفسه، إن سمح المكان وحجم الشريان المصاب، كما هو الحال عند مريضتنا، فزرعنا لها شريانا من وريد مستعار، ومازالت تراجع وهي بأفضل حال.
وهكذا فالاختلاط الجراحي كريه ولكنه يقع، وهو يكون إما من جاهل معتد على المهنة، وإما من معتد مغرور ينظر إلى الساعة أكثر من المريض، وهي نصف جريمة، أو من سبب لا يحسب له الطبيب حسابا، فلا يحتاط فتحدث المشكلة، وإلا فالطبيب حريص ألا يحدث هذا، ولكنه مع كل حرصه يحدث، فهي قضية معروفة ومحسوبة بدقة في كتب الطب الكلاسيكية، وبرقم معروف بالنسبة المئوية، فتحدث ليس بنية الطبيب، ولكن بغفلته عنها، تماما مثل حوادث السيارات!
وحسب (نكاياما) الجراح الياباني فإن على الجراح ألا يحدث من الإضرار أكثر من الموجود، ولكنه كلام نظري.
والواقعات اليومية تقول إن المضاعفات قدر لا مفر منه، وهو خطأ بشري، ومن مزج المهنة باليقظة والهمة والإخلاص، ومعرفة التشريح والوظيفة وفن الجراحة، ودخل العملية بمزاج معتدل ونوم ممتاز وبدن لا يشكو من علة وضغط، وعامل الأنسجة برقة واحترام، مع إجلال الوقت دون خلل، وصل لأفضل النتائج، مع دفع الاختلاطات إلى حافة الصفر المطلق، دون أن يصل إلى ذلك مطلقا!
ومن كرر الأخطاء لم يعد طبيبا، ولو علّق السماعة واتشح بالبياض...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي