طبيعة المعرفة
"وهو القانون الخامس من قوانين البناء المعرفي"
كيف تنشأ المعرفة أو بكلمة أدق كيف نبني المعرفة؟
والجواب كما كان تركيب الدماغ كذلك هي طبيعة المعرفة، أي بالأبعاد الثلاثية، أو لنقل إنها بالعمق والسطح، وهذه تحتاج إلى دورات بحيث يخرج في النهاية نسيجا معرفيا، فكما تفعل النساء مع نسج الصوف بإبرتين، بحيث يخرج في النهاية الكنزة أو القميص من الصوف يغطي الصدر، فإن المعامل عملت الشيء نفسه من أجل إنتاج القماش، فثوب القماش هو خيطان متضافرة بالطول والعرض، ولو تمعن أحدنا في القماش للاحظ وجود مثل هذا التضافر من الخيطان.
الآن لنتصور الشيء نفسه مع خيطان المعرفة ولله المثل الأعلى ، وهذه هي الثقافة، فهي خيطان من معرفة موسوعية، وهذا هو الفرق بين الثقافة والاختصاص، فالطبيب مثلي لو بقي في حقل الطب لما أدرك العمق الفلسفي في الطب.
ولكن اشتغالي بحقول معرفية أخرى جعلني أضع كتابي حوار الطب والفلسفة، أو الوصايا العشر في الجراحة، أو التقدم العلمي والإيمان، أو العصر الجديد للطب فكله جاء من بركة الدراسات الموسوعية المعمقة.
وكما كان الإنسان خليطا من الغرائز والعواطف والأفكار كذلك كان النسيج الفكري فوجب رفده دوما يما يجعله في أبهى حلة.
كذلك فإن الحياة ليست طبا وفيزياء فقط بل هي تضافر لكم هائل من الأشياء.
والقرآن يقول عن علم الله إنه عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ثم ينطلق في الوصف فيقول؛ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وهنا نرى تباينات وانطلاقات معرفية منوعة، تنقل الفكر في سباحة من الخيال اللانهائي، دليلا على مصدر الكتاب. وفي هذا جاء شرح جميل ينصح بقراءته في ظلال القرآن عند شرح هذه الآية وإدخال عنصر ميكانيكا الكم في مفهوم العقلية الغيبية والعقلية العلمية.
وهو بحث يحتاج إلى أن تكتب فيه مقالة مستقلة.
ثم إن متعة العلم هي بهذا التشابك المعرفي، وأنا أتفهم من ملل الأطباء وأصحاب المهن من عملهم لفقدهم هذا العمق الموسوعي، ولذا جرت عادتي في الاجتماع بصاحب أي فرع معرفي أن أسأله عن فنه؟ فيتعجب ويسترسل، وكان قبل ذلك عييا، بل إنني أحرص على إنطاق كل العقول في المجلس، وتحرير الأتباع من سيطرة قوادهم، فينطلق لسانهم من عقال.
وهو ما حدث معي في جلسة فكرية في مدينة بركان في المغرب، عندما اجتمعنا مع رجل علم فاضل، ولكننا لو تركنا له الحبل على الغارب، لاستولى على البحث والحديث والمجلس، وهو مضرة له ولمن جلس له، كما أن من حسن الضيافة الاستماع للضيف؛ فهذا من الكرم غير المباشر. وهذه أمور تحدث من غير قصد وبنية ممتازة سليمة.
والرجل كما يقول الجاحظ عن أبي شمرة، أنه كان قد اعتاد التحدث لقوم لا يناقشونه حتى فاجأه النظّام، فكان إذا تحدث كأنه آلة مسجلة، كلام يخرج من صدع صخرة، ذلك أن فلسفته كانت تقوم على أن الفكرة تؤثر بما فيها دون استخدام مؤثرات الصوت وحركات الرأس واليدين ونبرة الصوت وقسمات الوجه. فلما بدأ النظام في نقاشه قفز من مجلسه وبدأ يخبط على فخذي النظام والتلامذة مذهولون من تصرف الشيخ؟
وهناك قوم ليس عندهم قدرة الإصغاء، والاستفادة من الآخرين، فوجب إنطاق المجلس، وتحويل المجلس إلى نقاش جماعي مفيد، وكان درسا عمليا للجميع.