العالم إرادة وفكرة
جرت عادة الفيلسوف شوبنهاور أن يتناول طعام غدائه في مطعم يتردد عليه الإنجليز، وكان يضع ديناراً ذهبياً على مائدة الطعام أمامه في كل مرة قبل تناول طعامه، ويعيده إلى جيبه بعد انتهاء كل وجبة، فسأله خادم المائدة في شيء من السخط عن هذا التصرف فأجابه شوبنهاور: أنه قد أخذ على نفسه عهدا بإلقاء هذا الدينار الذهبي في صندوق الفقراء في أول مرة يسمع فيها الضباط يتحدثون في شيء آخر سوى الحديث عن الخيل والنساء والكلاب. وهو يعيده إلى جيبه لأنهم لا حديث لهم سوى هذه الأمور".
وحسب (شوبنهاور) فإن الفيلسوف هو الذي يحافظ على روح الطفولة من الدهشة واكتشاف العالم، وحفظت عن (مالك بن نبي) فقرة جميلة تقول: "يصعب على الشعب الثرثار التنبه لوقع أقدام الوقت الهارب"، ويوجه إلي كثيرا نفس السؤال: كيف توفق بين الطب والفكر ومن أين الوقت؟ والجواب أنه ليس الوقت بل الاستفادة من الوقت، والحياة قصيرة كما يقول شوبنهاور، ولكن الحقيقة بعيدة الأثر وحياتها أطول، ومشكلة الوقت أنه رأسمال واحد معطى للجميع، وما كان عطاء ربك محظورا، ويفضل الله بعضهم على بعض بكيفية استخدام الوقت، فمنهم من بنى نفسه به، ومنهم من أضاعه فأصبح مفلسا، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، وحسب الفيلسوف (محمد إقبال) فإن الزمن ليس دورة الفلك بل حالة النفس، وقد يقرأ الإنسان عشرات الكتب تسلية، وقد يقرأ قصة أو كتابا فيخرج منه وقد تغير، والقرآن كتاب حجمه ليس بالكبير ولكنه قلب محاور التاريخ وما زال، والفلسفة كما يقول شوبنهاور ليست قراءة الكتب بل تأمل الحياة، وهو من أجل ذلك وضع كتابه في عام 1844م بعنوان (العالم إرادة وفكرة) ولكن بكل أسف فلم يبع إلا بنسخ معدودة، وبعد 16 سنة من إصدار الكتاب أُخْبِر الفيلسوف أن جزءا من الكتاب سوف يباع تالفا لرزم البضائع؛ فالكتاب لم يلفت النظر ولم يبع؟ وفلسفة شوبنهاور في الكتب جميلة، فهو يرى ألا نعرض عقولنا باستمرار لتدفق أفكار غيرنا لأنه يحصر أفكارنا ويكبح انطلاقها، ويؤدي في النهاية إلى شل قوة التفكير عندنا، ومن الخطر أن نقرأ عن موضوع قبل أن نكون قد فكرنا فيه بأنفسنا، وحسب شوبنهاور فنحن عندما نقرأ لغيرنا يكون غيرنا يفكر لنا، وهو أمر يجب أن نطبقه على نفس أفكار الفيلسوف، وأحكامه السيئة سواء في مسحة التشاؤم التي تغمر مؤلفاته، ولم يكن الوحيد بل كان طابع العصر، ويشبهه في هذا (بيرون) البريطاني و(هيني) الألماني و(دي موسي) الفرنسي و(ليوباردي) الإيطالي و(بوشكين) الروسي، بل حتى الموسيقيين من أمثال (شوبرت) و(شوبان) و(بيتهوفن)؛ فالعصر كله كان حطاما يبابا خرابا بعد حروب نابليون، ووأد الثورة الفرنسية وعودة الإقطاعية والحكم الملكي من آل بوربون في فرنسا. كما أن نظرات شوبنهاور عن (المرأة) مستقاة من تجارب غير سارة مع والدته التي كان يزورها قليلا، وعندما ألقت به من على الدرج، ودعها في السنوات الـ 24 الأخيرة من حياتها فلم يتقابلا حتى مات وماتت. وهو يقول: إن أول نصيحة نوجهها هي الاستفادة من خبرة الحياة وتجاربها قبل الكتب، وثانيا مطالعة الكتب نفسها قبل مطالعة ما كتب حولها، وهي حكمة بالغة، وأن نقرأ ما كتب المؤلفون قبل قراءة ما كتب النقاد والمعلقون، إذا لا يمكن تلقي الأفكار الفلسفية إلا من المؤلفين أنفسهم، لذلك ينبغي على كل من يشعر بالفلسفة أن يبحث عن معلميها الخالدين في معبد إنتاجهم ومؤلفاتهم، وإن كتابا واحدا من عبقري يساوي ألفا من كتب المعلقين، وهو ما فعله المؤرخ ديورانت حينما عكف على كتاب "العالم إرادة وفكرة" فوصفه بأنه سهل ممتنع، ليس في اضطراب وغموض ما كتبه (هيجل) أو ما فعل (سبينوزا) بربط الأفكار بالهندسة، أو تعقيد المصطلحات الموجودة في كتابات (إيمانويل كانط). ولله في خلقه شؤون.